اقتباس : هيا الدوسري
أهلاً لشرف نزول المعجزة القرآنية بها ، تجلوها في ذروة نقائها وعز أصالتها ومعجز بيانها وسارت مع الإسلام ، تفرض وجودها على الدنيا ، لغة ختام الرسالات ، ولسان دولته . واستطاعت بحيوية فائقة أن تستجيب لحاجات الحياة اللغوية لشعوب أمته ما بين المشرق والمغرب ، وأن تلبى مطالب التعبير عن الوجود الفكري والعلمي للحضارة الإسلامية .
وتكون يقظة واعية ، تذهل الدنيا ، وتدفع بلواء الإسلام هذه القلة المؤمنة من العرب البداة ، أبناء الجزيرة مع المجدبة الماحلة الأمية ، إلى آفاق العالم ، وتورثهم في فترة قصيرة لا تكاد تبلغ عمر فرد واحد ، ملك أباطرة اليونان وقياصرة الروم وأكاسرة الفرس وفراعنة النيل … ولم تكد الدنيا تفيق من ذهولها حتى كان أبناء الصحراء يطوون الممالك بلواء الإسلام من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي ، وحتى كان الهتاف الذي انطلق من حنجرة ( بلال بن رباح ) ترجعه عشرات الألوف من المآذن في شتى أنحاء الأرض ، فيستجيب لدعائه الملايين من شتى أجناس البشر !
-وراء الأسوار
… ومضت قرون قاربت أربعة عشر قرناً، وملايين المسلمين يستقبلون المسجد الحرام فى «أم القرى » خمس مرات في اليوم ، ومئات الألوف منهم يحجون إليها كل عام ، هاتفين من أعماق قلوبهم في ضراعة وخشوع :
لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك
لكنهم ما كانوا يجاوزون الحجاز إلى نجد ، فضلاً عن أن يوغلوا في أحشاء الدهناء والربع الخالي وبقيت الصحراء خلال تلك القرون قائمة هناك ، بكل صمتها العميق وسرها المرهوب ، تترامى وراء أسوار من جبال الحجاز الصخرية وتلال من كثبان الرمال وتمتد حتى الخليج العربى فى عزلة موحشة وتمتد إلى بقية الصحراء هناك ، و لا يكاد يلم بها أحد سوى قبائل من البدو الرحل ، يهيمون فى أرجائها ملتمسين مواقع الغيث ومنازل المطر .
بقيت الجزيرة فيما عدا أطرافها وقراها نائية مهجورة غامضة محجبة ، لا تريد أن تتصل بالدنيا أو تبيح حماها لغير أهلها من الأعراب البداة ، قد آثرت العزلة على الاتصال بالعالم خارجها ، وأقامت بواديها الواسعة ورمالها التي لا يدركها الطرف ، أسواراً منيعة تحمى تقاليدها ، وأعرافها ، وأنماط حياتها ، غير مستجيبة لتطور الدنيا ولا مكترثة لسير الزمان .
ولو أن أحد العرب القدامى عاد إلى تلك البقعة من الجزيرة لما وجد ما يثير دهشته: وسيجد العرب لايزالون في خيامهم السود ، والبدو الرحل على ظهور إبلهم ، والرعاة يستقون كل شيء فى مكانه كما تركه ، وملابس الناس كما كانت ،
ومظهرهم الجسماني لم يتبدل و قد جدت على العالم من وراء أسوار الجزيرة . أحداث جسام غيرت وجه الحياة ، وتنقل الناس من عصر البخار إلى عصر الكهرباء ، ثم إلى عصر الذرة من عصر الناقة ، إلى عصر القاطرة والباخرة ، ثم إلى الطائرة ، والجزيرة في عزلتها الصامدة تتحدى كل تغيير ، وتمتنع عن كل تطور .
>>> يتبع