إبراهيم بك الهلباوي
أحد فرسان الكلمة وشيخ المحامين وأول نقيب للمحامين في مصر
بقلم/ أ. مجدي الهلباوي
ولد ” إبراهيم بك الهلباوي” في البحيرة عام 1858م درس مذهب الإمام مالك على يد الشيخ ( رزق اليرقاني ) ودرس النحو والمنطق والبلاغة على يد شيخ الإسلام ( الشيخ الجيزاوي ) ثم ( المحلاوي ) والإنبابي هاجم جمال الدين الأفغاني وما لبث أن أصبح تلميذا له ودرس المذهب الحنفي على يد الشيخ المفتي عبدالرحمن الرافعي ، عمل في جريدة الوقائع المصرية وعين سكرتيرا للبرنس حسين كامل ( السلطان حسين كامل فيما بعد ) انخرط في سلك المحاماة عام 1886 وعمره يقارب الواحد وثلاثون عاما افتتح أول مكتب له بمدينة طنطا وكان بارعا فصيحا فاكتظ مكتبه بالقضايا ولمع نجمه في مده قصيره وانتقل إلى القاهرة في 1889 م ، وارتفع اسمه وهو مازال صغيرا بعد ترافعه عن المتهم في قتل ابنة قنصل البرازيل فحصل على حكم بالسجن ثلاث سنوات رغم اعترافه،
ومنذ ذلك التاريخ أصبح محاميا لامعا يلجأ إليه علية القوم وفقراؤهم …. وعمل محاميا للخديوي في محاكمة المصريين في حادثة دنشواي ، وكان رئيس المحكمة بطرس باشا غالي ووقف الهلباوي مترافعا حتى صدر حكما بالإعدام على أربعه وحكم على أثني عشر بالأشغال الشاقة أو الحبس و50 جلدة ، وكان يقول إنه خدم المتهمين إذ لولا مرافعته لأعدم الجميع ،إلا أن هذه المحاكمة جعلت الشيخ جاويش يطلق عليه لقب ( جلاد دنشواي ) وهجاه حافظ ابراهيم في قصيده قال فيها : أيها المدعي العمومي مهلا ، بعض هذا فقد بلغت المراد قد ضمنا لك القضاء بمصر، وضمنا لنجلك الإسعاد فاذا ما جلست للحكم فاذكر ،عهد مصر فقد شفيت الفؤاد لأجري النيل في نواحيك يا مصر ولا جادك الحيا حيث جادا أنت أنبت ذلك النبت يا مصر فأضحى عليك شوكا فتادا أنت أنبت ناعقا قام بالأمس فأدمى القلوب والأكبادا يا مدرة القضاء ويا من ، ساد في غفلة الزمان وشادا أنت جلادنا فلا تنس أنا ،لبسنا على يديك الحدادا.
وتدهورت حالة ابراهيم الهلباوي بعد هذه القضية وحورب حربا شديدة من الناس وخصومه وأصدقائه إلا أنه صمد أمام كل ذلك ، وكانت له كلمته الشهيرة ( ما أتعس حظ المحامي وما أشقاه يعرض نفسه لعداء كل شخص يدافع ضده لمصلحة موكله ، فإذا كسب قضية موكله ، أمسى عدوا لخصمه دون أن ينال صداقة موكله ) ، عرض عليه وظيفة مستشار في محكمة الاستئناف وهم أن يقبلها حتى قابل امرأه عجوز عرفت بذلك فقالت إن في مصر أربعين مستشارا ستكون واحد منهم ولكن يوجد محامي واحد لا مثيل له ، فرفض القضاء ،
وما لبث أن صالحه الزمن إذ جاءه خصومه بالأمس والذين حاربوه يطلبون معاونته في قضية مقتل بطرس غالي ليكون مدافعا عن قاتله إبراهيم الورداني ، فقبل القضية على الفور وأبلى فيها بلاء حسن ، واتجه إبراهيم الهلباوي يدافع عن القضايا الوطنية فكان وطنيا مخلصا ومحاميا عظيما ، فحاربته السرايا وانقلبت عليه الحكومة إلا أن ذلك لم يثنيه وكأنه يكفر عن محاكمة دنشواي ، وأصبح خصوم الأمس أصدقاؤه فصالحه حافظ إبراهيم وأصبح ملازما له .
وكان الهلباوي خطيبا مفوها وممثلا رائعا يمزج بين العربية الفصحى والعامية البسيطة ويتحرك بخفه ورشاقة يجبر المحكمة على سماعه ويجعل من يسمعه ويراه مشدوها بعبقرية هذا الرجل ، قال عنه عبد العزيز البشري في المرآه ( شيخ يتزاحف على السبعين إن لم يكن قد اقتحمها فعلا عاش مدى عمره يحبه ناس أشد الحب ويبغضه ناس أشد البغض إلا أن هؤلاء وهؤلاء لا يسعهم جميعا إلا التسليم بأنه رجل عبقري )، حارب من أجل إصدار قانون لإنشاء نقابة المحامين حتى ظفر به عام 1912وانتخب كأول نقيب للمحامين بأغلبيه 307 صوت من 333 صوت فأنشأ له المحامون لقب شيخ المحامين عرفانا بما قدمه لهم وكان أكبر نصر حققته النقابة هو تقرير الحصانة للمحامي فاجتمع له الجلالان جلال الكرامة وجلال البيان.
إبراهيم بك الهلباوي أول من أسس حزب الأحرار الدستوري ، وهو واحد من النقباء الثلاثة الذين وضعوا الدستور مع عبد العزيز باشا فهمي ومحمود أبو النصر ، ترافع عن زملائه مكرم عبيد وأحمد حلمي ضد الخديوي ، فكان نعم العون ونعم الزمالة أوقف من ماله أربعون فدانا لنقابة المحامين ، من كلماته في أحد مرافعاته ( خدمت نحو خمس وعشرون عاما في المحاماة ولم يخطر ببالي يوما ، و سبب اختيار الرداء الأسود حله رسميه للمحامي الذي يتشرف بالدفاع بين يدي القضاة ، ولا سبب انتخاب اللون الأخضر للوشاح الذي يزدان به صدر من أولوا القضاء .
أما الآن وقد أبعدت عن قلبي هذه القضية كل راحة وجعلتني مرآه لتلك القلوب المنفطرة كأم المتهم وشقيقته وباقي أهله ، قلت إن كان مختار هذه الألوان أراد باللون الأسود رمز الحداد والمصائب للمحامي الذي يمثل القائم بالدفاع عنه ، وباللون الأخضر الذي يتحلى به صدر القاضي ، الرمز إلى الطاووس ذي الريش الأخضر وهو مثال ملائكة الرحمة فنعم الاختيار كأنما نحن في هذه القاعة أمام أولئك القضاة المشبهين بملائكة الرحمة على سطح الأرض ، نقوم بمأموريه أولئك الأحبار في هيا كلهم الذين اتخذوا مثلنا ثياب الحداد وهم يتضرعون إلى مبدع السموات والأرض بأن يفيض على الأرواح الذاهبة إلى دار الخلود سحب رحمته وغفرانه ، فتقبلوا دعاءنا في طلب الرحمة للأحياء كما يقبلها من أقامكم حكما في عباده الذي علمنا انه وان كان من صفاته العدل فان من صفاته الرحمة ، وعلمنا فوق هذا أن الرحمة فوق العدل ).
توفي رحمه الله عن عمر يناهز الثانية والثمانون وذلك عام 1940م ودفن في القاهرة في مقابر الإمام الشافعي ، إنه شيخ المحامين ومحامي القضايا الوطنية فارس الكلمة وعبقري من عباقرة القانون ، وأول نقيب للمحامين “إبراهيم بك الهلباوي”