طارق يسن الطاهر
ـــــــــــــــــــــــــــ
أقف – مندهشا- عند عتبة العنوان “لولا الريح” الذي قد يراه بعض القراء ناقصا ، لكن الكاتبة أتت به في استخدام بليغ ، لتترك للمتلقي احتمالات التأويلات متاحة ، وتدع أبواب التقديرات مشرعة على مصاريعها.
وفي تحليل العنوان أقول :
لولا : أداة شرط غير جازمة ، ومعناها حرف امتناع لوجود ، أي امتناع الجواب لوجود الشرط.
نحويا ، هنا أسلوب شرط ، لكنه ناقصٌ ركنا ، وهو جواب الشرط ؛ ليترك مساحة للقارئ لتقدير ذلك المتروك ،وبعد القراءة المتأنية الواعية يتبيَّن أن جواب الشرط هو النص كاملا.
وللكاتبة في القرآن الكريم مثال مضى على هذا النهج ، فقد جاءت “لولا” مع جواب محذوف في قوله تعالى:
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب رحيم…) النور10
رغم أن” لولا” جاءت في آيات أخرى بأسلوب شرط مكتمل الأركان ، ومنها: ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشطان إلا قليلا) النساء83
هذا النص يلخص للمتلقي فكرة الحياة ، ويشرح رحلة الإنسان فيها ،ويبين تنوع سمات الناس ،واختلاف خصائصهم، وتباين ردَّات فعلهم تجاه الأشياء.
ويلخص لنا مدى ارتباط البشر بالطبيعة ، وتغيُّر حالاتهم حسب ارتباطهم بها، وتبرز هنا أهمية الريح ، كونها تنقل معها الخير، فهي لواقح ومبشرات، كما أنبأنا القرآن الكريم.
فقد تأتي لحظات فارقة تحمل في مضمونها طاقات تغير مسار حياة الإنسان، فهنا مشاعر مكبوتة ، وحلم غير مكتمل ، هنا صهيل مبتور.
تصف الكاتبة واقعا ماثلا أمامها ، وأمام الجميع، ثم تأتي لتوضح موقفها ، وجاء ذلك جليا حينما انتقلت من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم في آخر النص: يؤرقني …
المتتبع لكتابات الأستاذة جوري العبدالله – وهذا النص أكبر دليل – يجد أنها تتميز بلغة فوق المقطرة ، تقدم معانيها في مفردات موحية ، وتعبر عن أفكارها بألفاظ ذات ظلال ، كلماتها تقلب كيان الرؤى ، استخدام غير نمطي لمعانٍ، قد تبدو تقليدية ، لكن جودة السبك ، ودقة اختيار المفردة يعطيها صك التفرد.
تأتي بمعانيها في قالب مقنع ، وتصوغ أفكارها بطريقة منطقية ؛ إذ تأتي بالمقدمات المُفضِية إلى النتائج ، ومن ذلك:
يسابق البرق طريق النمل ؛ فينكشف ضعف المساريب، وهوان الشجر.
تبدأ نصها بداية عجيبة ، مختلفة ؛ إذ تقول :
جل السكون الذي يهيمن على العمق رحمة مثلى ، للسكينة التي يصعب التنبؤ بها على السطح.
فهنا صورتان متجانستان ،تدعم كل واحدة منهما الأخرى ، سكينة في الظاهر، وسكون في الباطن ،وربما يكون ذلك من باب التعايش والتكيف ، والتماثل .
ويتأرجح بنا النص بين مشاعر مختلفة ، ومواقف متباينة من انعتاق وتمرد ورفض وثبات وقلق وغبطة…
وتسرد لنا أثر بعض عناصر الطبيعة على بعضها الآخر ، وتقف ممسكة بعدستها ؛ لتصور لنا تلك المشاهد ، وتنقل لنا تلك الآثار، وتطوف بنا من السماء للأرض ، ومن البر للبحر ، ومن العمران لليباب …تحمل معها طاقة تصور الأحداث كما ينبغي ، لا كما هي .
حشدت الكاتبة في النص مفردات الطبيعة – وهذا قاسم مشترك في جميع كتاباتها – لتمنح الحياة روحها، ومنها :
الحمام ،الخفافيش ، الريح ، الشباك، الشجر، الأسماك ، المطر النمل …
ومفردات المكان التي كانت عنصرا أصيلا في هذا النص البديع ، ومنها: الحائط ، السطح، طريق …
كما برزت الأصوات : صهيل ، …
النص يتمتع بالحركة في جميع أرجائه ؛ لأنه يتكلم عن الحياة ، وهذه من خصائص الكاتبة ، حسب متابعتي لنتاجها الأدبي ، ففي هذا النص تحتشد الأفعال – التي بلغت اثنين وعشرين فعلا – وذلك يهب النص حركة وحيوية ، كما نجد الكائنات المرتحلة من طيور وأسماك وأمطار وريح تشارك في دفع حركة النص.
ومن جماليات النص ، الطباق الذي يعطي المعاني وضوحا ، ومن ذلك : العمق ،السطح … كما أدى الجناس لإبراز الجرس الموسيقي للكلمات ، ومن ذلك : السكون والسكينة، واستخدمت تقديم ما حقه التأخير ببراعة فائقة ومنه: وحدها الأسماك … كما أجادت الكاتبة حين استخدمت التجسيد بكثرة في نصها ، ومنه : الصهيل المبتور ، لزوجة الأعذار …
يعج النص بالصور البلاغية والاستعارات بشتى أنواعها ، ومنها: فم الريح / ارتاب اليباب …
تُنوِّع الكاتبة – ببراعة تحسب لها – جملَها بين الاسمية والفعلية ، فمن الاسمية حيث الثبوت والاستمرار: جل السكون … وحدها الأسماك …
ومن الفعلية حيث التجدد والحدوث : يهطل الملح ، يؤرقني الصهيل المبتور…
كذلك نوعت بين الخبر والإنشاء ، فمن الخبر -وهو الغالب- يهب الخفافيش كهوفا بيضاء / وما عادت تغريني لعبة الأضداد …
ومن الإنشاء : الاستفهام الإنكاري في قولها : فمن يقنع اللون الوفي …
تصدمك في كثير من جوانب النص عناصر المفاجأة غير المتوقعة ، وعدم القدرة على التنبؤ ، ومن ذلك :
يهطل الملح يوشم أجنحة الحمام بالأذى…
الفعل يوشم ، من الوشم الذي يستخدم دائما لوصف الجمال ، أو لرسم الجمال ، هنا أصاب أجنحة الحمام بالأذى .
كذلك نجد المفاجأة في قولها : يؤرقني الصهيل ، والطبيعي أن الصهيل صوت إيجابي يُسعِد ولا يؤرق؛ لأنه يصدر عن حيوان محبب ،ارتبط بالجهاد والفتوحات والنصر عند الحرب ، والفروسية والرياضة عند السلم.
برز في نص جوري تراسل الحواس ، وهو أن يهب الكاتبُ حاسةً خصائصَ حاسةٍ أخرى ،وهو لون جمالي وُجد في الشعر العربي القديم، وقد أكثرَ منه الشاعر الفرنسي بودلير في ديوانه “أزهار الشر” ، ومعناه أن تجعل العين تشم ، والأذن ترى ، …
تقول جوري : الصهيل المبتور ، هذه الصورة الجمالية جعلت الصوت المسموع مقطوعا ، الصوت تابع لحاسة السمع ، والقطع تابع لحاسة النظر وهنا رمزية موفقة للحلم المنتظر ،وللأحاسيس المكبوتة…
فالرمزية تطغى على جميع النص ، مثلا : الحمام يرمز للشخص المسالم ، والنمل للإنسان الدؤوب في عمله ، المستمر في سعيه. …
أقف هنا بالتحليل عند صورة بديعة جدا:
فمن يقنع اللون الوفي على الحائط العجوز بسطوة الديم ، فكلما غاب الظل ارتاب اليباب.
كلما غاب الظل ارتاب اليباب ، وهنا أستدعي قصيدة “الأرض اليباب ” للشاعر الإنجليزي تـ. إس . إليوت ، إنها لصورة بديعة ؛ فغياب الظل دليل على تلبد السماء بالغيوم التي ستمطر قريبا ؛ فتخضر الأرض ، وساعتئذ يفزع اليباب ، ويرتاب الخراب ؛لأنه لن يبقى ،ففي المطر زواله ،فستحل محله الخضرة .
والحائط القديم المهترئ لن يصمد لونه القديم الذي لازمه ، وبقي معه وفاءً وإخلاصا ، لن يصمد أمام قوة المطر الذي سيغير لا محالة من ذلك اللون.
مزج النص بين التعبير بضمير الغائب الذي غلب على معظم النص في مقدمته ووسطه ، ومنه ” يسيطر ، يهطل ، يسابق … ولكن في الخاتمة برز ضمير المتكلم : يؤرقني ، تغريني ، قلبي … وكلا الضميرين جاء في مكانه الصحيح.
تتناص الكاتبة – في هذا النص – مع نصوصها الأخرى ؛ إذ تقول هنا :عين الظلمة ، وفي نص آخر لها بعنوان “مساحة للرقص” تقول : نفقأ عين البعد ، وغيره كثير …
من أبرز ما يميز هذا النص -إضافة لبقية مميزاته- سلامته النحوية؛ إذ خلا النص من أية هنات نحوية ، وذلك أمر نادر الحدوث ، في كثير من الكتابات التي تمر بنا هذه الأيام .
وتجاوزت الكاتبة الأخطاء المشهورة التي يقع فيها كبار الكتاب، ومن ذلك تجدهم يكررون “كلما” والصحيح أنها تأتي مرة واحدة ، ومعناها هو الذي يفيد التكرار، وليس تكرارها حرفيا ، ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) ؛ إذ قالت جوري : كلما غاب الظل ارتاب اليباب ، ولم تكرر “كلما” ، ويُحمد لها ذلك.
كما برعت الكاتبة نحويا ، فقد برعت إملائيا ؛ إذ أجادت في رسم الهمزات في مكانها ، وبشكلها الصحيح ، وكذلك في وضع علامات الترقيم التي تجسد المعاني بشكل مميز، وفي مكانها السليم.
إنه نص رمزي عصيٌّ عميق ، وفي الوقت نفسه هو نص سهل ممتنع رغم تكثيفه ، لكن يمكن فك رموزه ، فالكاتبة تركت لنا بعض المفاتيح ، ومنحتنا عددا من الدلالات التي عبرها يمكن للمتلقي فهم النص ، وليس هو – كبعض النصوص – طلاسم ، لا يمكن الوصول إليها .
إنها جوري العبد الله ، صاحبة قلم مميز، ومفردة مختلفة ، وصور بديعة ، وأفكار رائعة، وتراكيب لها فيها براءة اختراع ، إنها أديبة تصعد للقمة بسرعة الضوء.