صبري الموجي:
علي فراشٍ من خِيش جوالاتِ كيزان الذرة، جلستُ بجواره أقرأُ : ” ماردُ الأدغال ألقي قمقمه … افتحوا الباب وإلا حطمه “، فيرد من خلفي أقراني بصوت مُرتفع ترتجُ له جنباتُ البيت، الذي جلس الفقيدُ – رحمه الله – في مدخله أمام تلاميذه يعلمُهم مبادئ اللغة، ومخارجَ الحروف، وكيفية التهجي .
سنواتٌ طويلة بيني وبين ذلك المشهد، الذي بطلُه صوتٌ حالم، ينبعث مصحوبا ببحة تُشعرك بدفء الحديث، وثغرٌ باسم يستضيء له وجهه المشرئب بحمرة تُكسبه جمالا، وعينان يختفي حداقُهما مع ضحكاته الدائمة، التي تملأ المكان سعادة ومرحا.
هكذا كان – وكأنني أراه الآن – المعلمُ والأب والمربي محمد بيومي الخولي .
هو واحدٌ من جيل الرواد ممن أناروا عقول قريتنا، وتعهدوا تلاميذهم تعليما وتوجيها، نُصحا وتربية، عطفا وحدبا، فشب التلاميذُ عن الطوق، يدينون له ولغيره من رموز قريتنا بالفضل والعرفان .
لم يسعدني حظُ الجلوس بين يديه في فصل مدرسي لأنهل من وافر علمه، وكريمِ فضله، وفيض خلقه، ففاتني – ورب الكعبة – الكثيرُ .
ولأدركَ بعضا مما فاتني، دفعني والدى – طيب الله ثراه – إليه لأغترفَ من معينه الصافي في درسٍ خصوصي ببيته، بعدما بلغتْ شهرتُه الآفاق، ونما إلي سمع والدي : أن من لم يدرس علي يد محمد بيومي الخولي، فلم يدرس بعد .
تلقفتني يدُ الرجل، وأولاني رعاية واهتماما؛ إكراما لأبي من جهة، وتقديرا لتفوقي من جهة ثانية، فترعرعتْ في معيةِ ذلك الشامخ – طيب الله ثراه – موهبتي الدراسية، إذ كان درسُه الخصوصي ورشة عمل، تصقل جلاء الموهبة، وتقوم المعوج، وتأخذ علي يد المُقصر، الذي لم يُجدِ معه حلمُ الفقيد، فكان يضطرُ إلي استخدام العصا باعتبارها آخر الحلول .
كان الفقيدُ مُعلما من طراز فريد، عارفا وبحرفية كيفية توصيل المعلومة إلي أذهان تلاميذه من أقرب طريق، وعلي جانب آخر كان تلاميذُه يجلسون أمامه وكأن علي رؤوسهم الطير؛ طمعا في التحصيل، الذي أيقنوا أنهم إن لم يحصلوه طوعا، فسيحصلوه كرها، فكانوا يقولون : (الطيب أحسن).
آمن الفقيدُ بمبدأ الثواب والعقاب، فكما كان حازمًا مع المُقصر، يصدق عليه قول القائل: فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازما فليقسُ أحيانا علي من يرحم، كان بحرا لا ساحل له في عطائه للمتفوق وإثابته، لا يبخل عليه بجهد ولا مال، وقد نلتُ من عطائه الكثير، فرحمه الله وأجزل له المثوبة .
نشأ الفقيدُ في أسرة فقيرة حفرتْ في الصخر للوصول للهدف، فتخرج فيها طبيبان ومهندسُ، وبعضٌ من الشباب المكافح، الذين مشوا في مناكب الأرض، وقد تسلحوا بأخلاقٍ رفيعة ورثوها عن أبٍ أحسنَ تربيتهم، وأخٍ كان لهم نعم المعلم والأب .
كانت حياةُ الرجل حافلة بالعمل والكفاح، فإلي جانب عمله المدرسي، أسسَ مع ثلة من مُحبي العمل الخدمي جمعية استهلاكية توفر السلع لذوي العوز بأسعار مُخفضة، كما شارك في العديد من الجمعيات الخيرية لدعم الفقراء والمحتاجين، فأرهق جسده لراحة الآخرين، لسانُ حاله : ( وللآخرةُ خيرٌ لك من الأولي).
هي حياة حافلة بالعطاء عاشها الفقيد، دون أن ينتظر من أحد جزاء ولا شكورا، ومضي تاركا خلفه أجيالا من المحبين، والمُترحمين .
فالله أسألُ، ويسأل محبوه أن يجزيَه علي ما قدم خير الجزاء، وأن يُبارك له في أهله وذريته .