وقفات تأملية في قصيدة ” الدفتر المصلوب” للشاعر محمد المدخلي

طارق يسن الطاهر

إنها قصيدة باذخة ، لشاعر شامخ ، أما القصيدة فهي ( الدفتر الـمصلوب) ، وأما الشاعر فهو أبوالهيثم محمد جابر المدخلي ، الشاعر المعلم ، فالمعلم يجيد فن القول ، ومتفوق في توصيل ما يريد قوله ، وحينما يتحد المعلم والشاعر في شخص واحد ، فلا تنتظر غير الجمال ، وذاك هو الذي نجده لدى محمد المدخلي .

عتبة العنوان من أهم العتبات في تأمل النص الشعري؛ لأنه أول ما تقع عليه عينا المتلقي ، فالعنوان لابد أن يكون مغريا ومثيرا ، وقابلا للتأويل ؛ حتى يجذب المتلقي لقراءة النص ، ولو نظرنا في عناوين قصائد شاعرنا نجده يتمتع بقدرة فائقة على اختيار العنوان مدخلا للقصيدة ، فهو بارع جدا في انتقاء عناوينه ، كما هو بارع جدا في نظم قصائده ، فلو نظرنا في بعض عناوين قصائد الشاعر نجد كل عنوان بمثابة قصيدة ، من حيث المفردات والصياغة والخيال ودقة التركيب، ومن تلك العناوين :
رعشةُ الذكريات، وعَثْرَةٌ على فوضى الغرام ، أوجاعٌ على بابٍ مَخْلوع ، وعنوان قصيدتنا موضوع التأملات الحالية :
الدفتر المصلوب .

وإن تتبعنا قصيدة “الدفتر المصلوب” ، فالقصيدة عبارة عن قصة حب نسجها شاعرنا بضمير المتكلم ، وهو المحب العاشق الذي قطع قربا لذلك الحب ، لكن تقطعت سبل الوصال ، وتصرمت حباله ، ونجح في استخدام عدد من الكلمات التي تخدم ذلك الغرض ومنها : شد ، حبل ، نسج ،المفتول ،وصلا لحبل … ؛ مما جعل مدلول رمزية مقصِده واضحة ، لكنها عميقة ، فهذه الرمزية المحببة للمتلقي ، أن يعطيه الشاعر مفاتيح يتمكن بموجبها فك رمزية الشاعر ، لا أن تكون الرمزية غموضا يستحيل معها فهم مرام الشاعر ثم ينتقل إلى توضيح التشظي الذي أصاب قلبه ، فالأسئلة تخرج من قلب محطم ، بدافع ذلك الخداع الذي أصابه ، والغدر الذي ألمَّ به ، وإجابات هذه الأسئلة حيَّرت الأفكار ، وفرَّقت النبأ.

فقد عانى من الغدر ، وأصابته الدهشة الكبرى لما حدث من غدر وخداع ، وكثرت جروحه ، وأضحى هائما على وجهه في البيداء ، ولم يدرِ وجهته ، ولم يجد كلأ سوى فتات نفسه ، ثم يبرز الدفتر المصلوب – عنوان النص- بعد بحث وتفتيش، لكنه لا يبقى صامدا ، فما أن يقرأه حتى تتلاشى سطوره.

ثم سكنته الحيرة ، وما عاد له أنيس ، وبقي سجينا لآلامه التي امتدت وتطاولت بحجم الكون ، لكنه يعود إلى قوة إيمانه ، ويلجأ لرب العزة الذي ما خاب لاجئ إليه ، ثم ينتظر الأمل ، فيختم بهذا الاستفهام الذي يخرج عن غرضه الحقيقي لغرض التمني :
فَهَلْ تَعُودُ الـمُنى يَوْمًا لِتَسْقِيَني ماءَ الحياةِ لِـمَاضٍ وَدَّعَ الظَّمَأَ

هي قصيدة تنتحي أحيانا في بعض أجزائها ناحية درامية ؛ حيث يبرز الحوار فيها :
فَقُلْتُ: ماذا تراءى للحبيبِ وما تَصاعدَ الحِسُّ إلَّا خِلْتُهُ هَدَأ؟

برع الشاعر في نسج صوره ، وأجاد في توظيفها حسب مقتضيات النص ، ومن ذلك تلك الصورة المعبرة التي أراد بها الشاعر توضيح أن حزنه كبير، وألمه ممتد، وآهاته عظيمة ،تفوق كل المخلوقات :
الكونُ لمْ يَتَّسِعْ لِلآهِ مِـنْ ألَـمي ولا الفضاءاتُ أو ما خالقي بَرَأ
وهذه مبالغة ، لكنها حسنة، وليست ممقوتة .

شاعرنا بارع جدا في انتقاء مفرداته ، وكلها ذات إيحاء وظلال ، ومع كثرة الترادفات في اللغة ، لكنه يحسن اختيار المرادف الذي يكون مميزا عن غيره في دقة إصابة المعنى ، ومن ذلك قوله : خاتلتني ، فكان يمكنه أن يقول خادعتني، بنفس الوزن ، ونفس المعنى ، لكن هنا يبرز تميز محمد المدخلي ، وهذه ميزة تسمو به على كثير من الشعراء .

وهنا مفردات متقدة ، تخدم مجالا محددا ، تتضافر معا ؛ لتعطي النص قوة ، وذلك يتمثل في : وميض ،اشتعال ، انطفأ … وهذا قمة التكثيف:
عاثتْ بِهِ ظُلْمَةُ الأنحاءِ واشتعلتْ أقداحُهُ مِـنْ وميضِ الغْدْرِ فَانْطَفَأَ

يحشد الشاعر عددا من الصور التي تصب في المتخيل الشعري ، فيمنح المتلقي جمالا يفوق الوصف ، ومن ذلك :

الاستعارة في :
لاحَقَني صَدَى جُرُوحٍ
لِتَسْقِيَني ماءَ الحياةِ لِـمَاضٍ وَدَّعَ الظَّمَأَ

ويأتي بالترادف الذي يؤكد المعنى في :
انطفأ ، تلاشى

كما نلمح الطباق ؛ حيث التضاد الذي يوضح المعنى، وذاك كثير في النص، سواء كان تضادا بين مفردات أو بين مواقف ، ومن ذلك الطباق بين :
تَصاعدَ ، هدأ ، وأيضا بين : أسْئلةٌ ،جَوابُها

كما يجيد شاعرنا صوغ الكنايات بشكل احترافي، ويبدو ذلك في مواضع كثيرة من النص، ومنه:
ما خالقي بَرَأ
وهي كناية عن موصوف، ويقصد بها جميع المخلوقات التي برأها الخالق البارئ عز وجل .
وهنا كناية أخرى عن موصوف أيضا ، والمقصود بها “رب العالمين” في :
سَأَشْتَكيه لِـمَـنْ تَأتِي الخُصومُ لَهُ

ثم يبرز التشخيص في :
لحبْلٍ شاخَي
تدافعت أسئلة

ينوع شاعرنا بمهارة بين الجمل الاسمية ، ومنها :
جَيشانِ في لَهْوهِ العاتي
الكونُ لمْ يَتَّسِعْ لِلآهِ مِـنْ ألَـمي

والجمل الفعلية ، ومنها :
مَكَثْتُ حيرانَ لا حَدْسٌ يؤانسني
وَعَاشَ سِجْنًا بِقُضْبانٍ لَهُ

لكن استخدامه للجمل الفعلية كان أكثر، وذاك لأن النص يضج بالحركة ولا يقبل السكون ، فكان ملائما جدا أن تكثر فيه الأفعال .

ومن ذلك أنه حشد بعض الأبيات بعدد من الأفعال المتعاقبة ؛ مما أدى إلى منح النص حيوية وحركة دؤوب ، يتضح ذلك في هذا البيت الذي ذكر فيه الشاعر أربعة أفعال :
لعلَّ إيماءةً للود تَجْعَلُني أُقيمُ وَصْلًا لحبْلٍ شاخَ واهترَأ

تلاعبَ الشاعر باقتدار بأماكن الكلمات ، فقدم ما حقه التأخير؛ كي يمنح النص معاني إضافية ،ويفتح له آفاقا احتمالية أوسع ، ومن ذلك :
شَدَّ حَبْكَتَهُ وَفاءُ حَرْفٍ
فترتيبها الطبيعي : شد وفاءُ حرفٍ حبكتَه ، فأخّر الفاعل وقدم المفعول به.

يعتمد الشاعر الحذف للاختصار ؛ فـ : ” حذف ما يُعلم جائز “، ومنه :
جَيشانِ في لَهْوهِ العاتي تُعاركُهُ رِيحُ الصباباتِ مِـنْ حَصْبائها صَبَأَ
أي هما جيشان ، فحذف المبتدأ للعلم به وللاختصار.
وكذلك في البيت :
الكونُ لمْ يَتَّسِعْ لِلآهِ مِـنْ ألَـمي ولا الفضاءاتُ أو ما خالقي بَرَأ
فأصل المعنى : ولا الفضاءات تتسع … لكن المعنى مفهوم يفسره الفعل المذكور قبله.

واتكاءً على ثقافته القرآنية ، نجد أن شاعرنا يقتبس من القرآن الكريم قصة الهدهد وسبأ في سورة النمل ، حينما يقول :
مَكَثْتُ حيرانَ لا حَدْسٌ يؤانسني وَهُدْهُدِي غابَ عني واقتفى سَبَأ
وهذا من قوله تعالى : ” مالي لا أرى الهدهد…” النمل 20 و ” وجئتك من سبأ بنبأ يقين ” النمل 22

تنوعت أساليب شاعرنا في نصه ما بين الخبر والإنشاء ، فمن الإنشاء نجد الترجي في :
لعلَّ إيماءةً للود تَجْعَلُني أُقيمُ وَصْلًا لحبْلٍ شاخَ واهترَأ
والاستفهام بغرض التمني :
فَهَلْ تَعُودُ الـمُنى يَوْمًا لِتَسْقِيَني ماءَ الحياةِ لِـمَاضٍ وَدَّعَ الظَّمَأَ
واستفهام آخر بغرض التعجب :
ماذا دهى النبْرةَ القُصْوى وَسَطْوتَها أمْ كُلَّما لاحَ صَوتي للوصَالِ نَأَى؟!

القصيدة من بحر البسيط الذي “يبسط لديه الأمل” بتفعيلاته الثنائية : مستفعلن فعلن مستفعلن فعلن ، تتكرر مرتين في كل شطر ، والبسيط بحر رحب طويل ، يتسع لاحتواء مكنونات الشاعر ، ويقدر على استيعاب معانيه ، مهما كثرت .

أما حرف الروي فهو الهمزة ، والهمزة حرف حلقي عميق المخرج قوي الصوت ، وهنا اختار شاعرنا أن تأتي همزته مفتوحة ، كانه يوحي لنا بإطلاق معانيه ، وتدفق صوره دون توقف.

جاء البيت الأول مصرعا ؛ حيث اتفق آخر حرف في كل شطر منه:
قَطَعْتُ قُرْبًا لِذَاكَ الحُبِّ مُذْ بَدَأَ فَخانني نَسْجُهُ الـمَفْتولُ وَاتَّكَأ
والتصريع، ويسمّى أيضا التقفية الداخليّة، يكون باتّباع عروض البيت لضربه.

حرف السين ، وهو من حروف الصفير، أعطى الأبيات جرسا موسيقيا رائعا ، وذلك بتكراره كثيرا في النص، ومنه ثلاث مرات في بيت واحد:
مَكَثْتُ حيرانَ لا حَدْسٌ يؤانسني وَهُدْهُدِي غابَ عني واقتفى سَبَأ

كذلك تكرار حرف القاف في بيت واحد ثلاث مرات ، له أثره في إحداث نغمة موسيقية :
تَقَلَّبَتْ قِبْلَتي بالبيدِ ما وَجَدَتْ إلا فُتاتي لِكي يَبْقى لَهُ كَلَأَ

ويختم شاعرنا قصيدته “قصته” بهذا التساؤل المفتوح الذي يحمل معنى التمني :
فَهَلْ تَعُودُ الـمُنى يَوْمًا لِتَسْقِيَني ماءَ الحياةِ لِـمَاضٍ وَدَّعَ الظَّمَأَ

الدفتر المصلوب نص ماتع ، عميق ، فاره، باذخ ، لشاعر عظيم ، متفرد ، متمكن ، لا أدَّعي أنني أحطت بالنص من جميع جوانبه في هذه القراءة التأملية ، فعبقرية المدخلي صعب سبرها ، ولكن حسبي أنني أطلقت إشارات ،تضيء الطريق لقراءات أكثر عمقا .

عن شعبان توكل

شاهد أيضاً

بلادُ العربِ أوطاني

شعر.. بلقيس الشميري بلادُ العربِ أوطاني وكلُ العُرْبِ إخواني إذا ماجادتِ الشكوى فما أبكاكَ أبكاني …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.