عيدانُ الكبريت

محمد الرياني

اشترى علبةَ كبريتٍ من بائعٍ جائلٍ تبدو عليه علاماتُ الفقرِ والبؤسِ والحاجة ، عيناه تبرقان بالذكاءِ على الرغمِ من الإنهاكِ جراءِ الدورانِ في السوق ، مازَحَه كي يشتري منه اثنتين بقيمةِ الواحدة ، لم يردِ الشراءَ ولكنَّ ملامحَ البائعِ الصغيرِ دعتْه للشفقةِ عليه ، أقسمَ يمينًا بأنه لم يبعْ لأحدٍ غيرَه وأنَّ سعرَه في المصنعِ ربما لا يساوي القيمةَ التي يتحدثُ عنها ، ضحكَ وهو يمدُّ له القيمةَ مستعجلًا ، سألَ نفسَه ماذا سأصنعُ بعلبةِ الكبريتِ هذه؟ ربما تنفعُ يومًا ما، تذكَّرَ الأعيادَ عندما كان صغيرًا يشعلُ فتائلَ ألعابِ الطراطيعِ مع أصحابِه لتُحدِثَ أصواتًا وهم سعداء ، قرأ العبارةَ المكتوبةَ على الصندوقِ التي تشيرِ إلى علامته ، مثلتْ أمامَه صورةُ أمِّه وهي تُرسله ليشتري من دكان (عبده) كبريتًا أبو الساعة، فيجلبَ العلبةَ وينتظرَها حتى تُشعلَ التنور ، ثم يراقبَ اللهبَ مع مغيبِ الشمسِ والدخانُ يتصاعدُ إلى السماءِ بسببِ عودِ ثقاب، ذابتْ أسئلتُه عندَ الصغارِ الذين استقبلوه وهو يحملُ بيده صندوقَ عيدانِ الثقاب، أسئلةٌ ونداءاتٌ متبادلة، تعالوا شاهِدوا أبي ماذا اشترى؟ فهقهاتٌ تعالتْ في الصالةِ الواسعة ، ضَحِكٌ بينَ الصغار، تركوا أجهزتَهم الذكيةَ جانبًا وتفرَّغُوا له ولعلبةِ الكبريت، سألوه بكم اشتراها؟ وأين وجدَها؟ ومن هو البائعُ الغبيُّ الذي يبيعها الآن؟ تأمَّلَ وجوهَهم التي تلمعُ من وسائلِ الراحة، تذَكَّرَ الصبي الذي اشترى منه علبةَ الكبريتِ وملابسَه الرثةَ وحذاءَه المغبرَّ بالتراب ، أكثَرُوا عليه من الأسئلةِ وتفكيرُه في السوقِ الشعبيِّ الذي يكثرُ فيه الباعةُ الجائلون الذين يبيعون الأشياءَ المتواضعة ، هزَّ رأسَه غيرَ مكترثٍ بهم وعادوا يلعبون بهواتفهم ، فجأةً أظلمَ المكان ، جاءتْ رسالةُ اعتذارٍ على هواتفهم من شركةِ الكهرباءِ بأنها ستنقطعُ حتى الصباح ، صاحوا وهل سنبيتُ في الظلامِ والحر، فتحوا النوافذَ لرؤيةِ النجوم ، أحضرَ لهم علبةَ الكبريت ثم أشعلَ عودَ ثقابٍ قريبًا منه، استمتعوا برؤيةِ الشعلةِ في الظلام ، طمعوا في إشعالِ عيدانِ ثقابٍ مثله، طلبَ منهم أن يصيحوا كالدِّيَكَة في الظلامِ وهو يُقهقه عليهم ، صمتٌ أحاطَ بالمكان ، أحضرت الأمُّ فانوسًا قديمًا به بقايا من الكيروسين ، أشعلتْ فتيلتَه ثم ناموا في الحر ، سألوه في الصباحِ عن مكانِ البائعِ الذي باعَ علبةِ الكبريت ، مازحَهم وهل ستبيعون مثله؟ عادَ التيارُ الكهربائيُّ من جديدٍ فأعادوا الفانوسَ والكبريتَ إلى المستودعِ المهجور ، في الليلِ حلَّ الظلامُ مع انقطاعِ الكهرباءِ للمرةِ الثانية ، تسابقوا إلى الفانوسِ لاشعاله ، نجحوا في تعبئتِه بالوقود ، بدتْ شعلتُه مثلَ شمسٍ صغيرة ، خَفَّفَوا الإضاءةَ وهم يستمعون لحكايةِ جدَّتِهم عن أسرارِ الليل ، نفدَ الوقودُ من الفانوسِ ولم تنتهِ حكاية الجدة ، في الصباحِ علَّقوا الفانوسَ وبجوارِه علبةُ الكبريتِ ينتظرون جدَّتَهم لتكملَ عليهم القصةَ في الظلام .

عن إدارة النشر

شاهد أيضاً

جُرْحُ الْهَوى

محمد النعمي – بيش أمَا زَالَ وَجْهُكِ حُلْمَ الُمَرايا وَعَيْنَاكِ يَرْنو إلَيْها الْكَحَلْ وَهَلْ مَا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الرؤية: انطلقت جريدة روافد الإلكترونية من المدينة المنورة تساهم في تقديم الأخبار وتغطيتها، واستقصاء المعلومة بأسلوب يراعي أحدث المعايير المهنية ويحرص على ملامسة رغبات القراء المعرفية وتلبية احتياجاتهم المعلوماتية. وتعنى روافد بالشؤون المحلية، في دائرتها الأقرب، ثم تتسع دوائر اهتماماتها لتشمل شؤون الخليج فالعرب فالعالم.
الرسالة: توفير المحتوى الملائم للجمهور على مستوى التغطيات السياسية والرياضية والأخبار المنوعة، وتقديم التقارير والتحليلات السياسية والتحقيقات الصحفية في مختلف الأحداث بأسلوب يتماشى مع تطلعات الجمهور، وتقديم محتوى غير تقليدي من حيث الشكل والمعالجة. ولن تتوقف روافد عند حدود المهنية ومعاييرها، بل ستحرص على إضافة نكهتها الخاصة التي تمرّن فريق العمل عليها.