محمد الرياني
وقفتْ وراءَه ودمعتُها تنسابُ على مقلتيْها ، لم يدعْ له الغضبُ مجالًا ليشفقَ عليها، صورةُ شيطانٍ وقفَ أمامَه على هيئةِ حسناءَ تنتظره ، أمسكتْ بقميصِه من الخَلفِ تتوسلُ وتعتذر ، تبكي بحرقةٍ وهو في غايةِ الكبرِ والتسلط ، أدارَ محركَ السيارة، جعلَ من ترابِ الأرضِ إعصارًا ملأَ المساحةَ حولها غبارًا، تعثرتْ ووقعتْ على الأرضِ وتحتَها الترابُ ومِن فوقِها وهي تتبعُه ، كادَ أن يرتطمَ بالبوابةِ من هولِ رعونته، فتحَ المذياعَ ليأنس ، تشيرُ الساعةُ إلى التاسعةِ صباحًا، اعتادَ في هذا الوقتِ الاستماعَ إلى برنامجٍ عن الأسرةِ السعيدة، تعجبُه مقدمتُه الحزينةُ التي تتحدثُ عن روعةِ الحياةِ الأسرية ، لم يتمالكْ نفسَه فذرفتْ عيناه حتى أغرقتْ خدَّيْه ، تذكَّرَها عندما كانت ترددُ معه ” بيت العز يابتنا ” بكى بكاءً مرَّا، سألَ نفسَه عن سببِ تصرَّفِه ولم يجد جوابًا ، عادَ الشيطانُ ليزينَ له من جديد ، قال له : لا تتراجع ، هناكَ من ينتظرك ، سترى جَنَّةً مِن الحياةِ لم تعشْها، أطاعَه وسارعَ نحو قِبلةِ الظُلمة، التفتَ إلى المقعدِ الخالي بجواره ، شعرَ بألمٍ في ذراعِه اليمنى، لم يعد يقوى على تحريكها، كانتْ هي التي تحرِّكُ له الدمَ في العروقِ بكفِّها المخضبة ، أغمضَ عينيه واستعاذَ من الشيطان ، توقفَ جانبًا وهو يستمعُ لبرنامجِ الأسرةِ حتى انتهى ، ردَّدَ مع أغنيةِ النهاية، بدا الجوُّ رائعًا والسماءُ تكادُ تلقي سحابَها على الأرض ، استدارَ ورجعَ إليها بسرعة، هطلَ المطرُ بغزارة ، أقبلَ نحوها ولاتزالُ تنتظرُه في الخارج ، انطلقَ إليها مسرعًا وألقى جسدَه في أحضانِها، ضمَّ كفَّيْه ليستقبلَ المطرَ وأخذَ يغسلُ وجهَها كي يزيلَ الغبار، ازدادَ المطرُ وهما غارقانِ في مائيْ العيونِ والمزن ، وعدَها أن لا يقربَهما شيطانٌ آخر، دعا اللهَ أن يكثرَ المطرُ ودعتْ معه ، أرادَ أن يعتذرَ لها ولكنَّها سبقتْه بكفِّها على فمه ، تبادلا النظرات، قالت عيناه لعينيها مالم يقلْه لسانه ، وعدَها أن تبقى بجواره تردِّدُ معه أنشودةَ الأسرة ، مدَّ إليها ذراعَه فوضعتْ إصبعَها على نبضِ دمِه .