بقلم/
عبدالله بن حمدان الفارسي : سلطنة عمان
القهوة مشروب مر المذاق كما هو متعارف عليه ومتبع في غالب الأوقات والمناسبات، ولكن مرارتها ليست بالمستوى الذي يفقدها لذتها ونكهتها ومكانتها لدى عشاقها ومدمني تعاطيها، ولكل واحد ذائقته وطقوسه الخاصة في كيفية الاستمتاع بها وطرق احتسائها، مع ضرورة تفضيلها بمذاقها الأقرب للمرارة، فسر روعتها يكمن في ارتفاع المعدل النسبي لتلك المرارة أكثر منه في ارتفاع منسوب مذاقها المحلى، وجاذبيتها في تفردها بنكهتها ولونها الأقرب للسواد بدرجاته المتفاوتة حسب رغبة المحتسي مع إضافة متطلبات التهجين التي يحبذها البعض فيها، الأمر الذي يجعل منها غير مستحبة ومستساغة نوعا ما كلما تفتح لونها، وكان أشبها بالبياض، وكما هو معروف فإن الاختلاف في الذوق والتذوق وسبل الاختيار والتنوع بين الناس مسألة طبيعية.
فليس كل أسود مذموم، ولا كل أبيض محمود، وللناس فيما تهوى وتعشق مذاهب، إن من يجعل الأشياء جميلة وفاتنة وذات معالم جاذبة وجذابة ليست وحدها الألوان والأشكال، فكل الأشياء باختلاف صورها ومسمياتها ومكوّناتها وألوانها هي ليست الفيصل الأوحد في خلق عوامل الجذب أو التهيئة له، فهناك عوامل وضوابط وثوابت أخرى لابد من وجودها للتمكين من ذلك تتواجد لدينا كبشر.
فالإنسان بطبيعته متعدد الميول والانتماءات والولاءات والغرائز؛ وبالتالي من الصعوبة بمكان إرضاؤه وإقناعه بتقبل ما كان مصدر سعادة وترحيب لدى غيره، إن التيقن الأكيد والتنبؤ بكل ما يحتويه قلبه ويختزنه عقله وترمقه عينه لأمر في غاية الصعوبة.
فليس بالإمكان أو السهولة بمكان توحيد مشاعر الناس، ووضعها في قالب أو إطار واحد، أو محاولة تصنيفها بمستوى موحد (حب أو كره).
فلكل إنسان منا نوافذه الذهنية والحسية، وتوجهاته وتطلعاته وآراؤه ومشاعره، ومن خلال هذه النوافذ متعددة الفوارق باختلاف التكوينات الذاتية، الجوهرية منها والظاهرية أو المجتمعية مع الغير لتتجلى له رموز وشخوص بكافة تفاصليها التي من خلال نافذته المجهرية تكوين وبلورة الحكم وإبداء الرأي عليها، بناء على المنهجية والنشأة التي ترسخت وتجسدت فيه، وقد يتفق مع أو ضد الطرف الآخر على حسنها أو قبحها.
وفي الكثير من الأحيان توجد ثوابت لا يمكن الاختلاف عليها، كما توجد مواقف يكون الخلاف عليها حتميا وضروريا، وموضع جدال بين الأطراف.
حتى مصادر الحب والكره والإعجاب تتفاوت مستوياتها بين شخص وآخر، والتي تعتمد في المقام الأول على الحواس الخمس، وهذا أمر بديهي، هي بحد ذاتها تختلف فيما بينها (الحواس)، فتعشق الأذن قبل العين، أو تهوى العين قبل اللسان أحيانا، فما تراه أنت جميلا يحرك وجدانك، أو تسمعه طاربا يدغدغ مشاعرك هو ذات الشيء يخدش ذائقة النظر أو السمع عندي، والعكس صحيح، وهناك العديد من التساؤلات التي تُطرح لأجل الوقوف على إجابة من شأنها أن تجعل النفس تهدأ في مضجعها، وتتعمق في سباتها، لماذا أحبَّها؟ وما سبب كرهه لها؟ وماذا وجد فيها دون غيرها؟! وماهي الدوافع في اختياره أو رفضه للأشياء؟ تلك التساؤلات لا أظنها تجد التفسير الذي يوحد كافة الأذواق على شيء واحد، وستظل الاختلافات في الأذواق قائمة لقيام الساعة، وهنا تكمن اللذة التنافسية والصراع لاختيار الأفضل، نعم كما قال الشاعر المبدع محمود بيرم التونسي وتغنت بها كوكب الشرق :- القلب يعشق كل جميل، هذه الجملة الشعرية الجميلة التي لا خلاف ولا اختلاف عليها، وباتفاق تام على صحة محتواها، ولكن! هنا مربط الفرس ماهية المعايير والمقاييس والأسس التي بنيت في مخيلة كلٍ منا في تحديد نوعية الجمال والتأثر به، وكيفية الاقتناع والتكيف معه.
الله سبحانه خلق وأبدع حينما منّ علينا بالحواس الخمس، جعل لكل حاسة خاصية مميزة تتميز بها عن الأخرى، نرى ونتلمس ونتذوق ونسمع ونشم، كل هذه الوسائل الحسية هي بلا ريب دليل الإنسان للوصول إلى ما تصبو إليه أو ترفضه نفسه.
ومع التسليم، وهذه من حِكم الله في خلقه وجود من هم دون اكتمال كل هذه الخاصيات والحواس التي ذُكرت فيهم إلا أن التماس التذوق بالجمال والشعور به ليس معدوما لديهم، وليس مقرونا ومرتبطا بتوفرها جميعها فيهم (الحواس)، والأدلة والبراهين على ذلك عديدة ومتعددة.
وهناك من الخلايا والجمل والصور الجمالية أيا كانت فئاتها ومكوناتها التي لاتدع مجالا للشك في توحيد الذائقة الإنسانية على أنها الأروع والأميز، ومنها من يجبرك بالرضوخ كرها أو طواعية بالاستسلام والانبهار بها، ويحضرني الآن قول الشاعر الرائع المتنبي حين قال: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي… وأسمعت كلماتي من به صمم. ومن لا يرضخ ويعترف بجمالية هذا البيت الشعري للشاعر الجميل الأمير خالد الفيصل: نصف زين الخلايق في عيونه… وباقي الزين في باقيه كله.