رقة الكلمة ودقة السبك وعمق المعنى..قراءة في قصيدة “إنها دول” للشاعر شادي الساحل

طارق يسن الطاهر
الأستاذ الشاعر إبراهيم جعفري ، رقم صعب في عالم الشعر ، أحسنَ حينما اختار معرفا لاسمه “شادي الساحل” ، فهو يشدو لنا بجميل شعره، ويتحد مع الساحل والبحر في مفرداته ، إنه شاعر كبير، يطوِّع الحرف ،وتلين لديه قناة الكلمة ، وتخضع أمامه العبارات ،وتنقاد له الصور.

قصيدته “إنها دول” نص مدهش بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني ، وتبدأ الدهشة من العنوان ، وتستمر إلى نهايته ، ولا تنقضي بعد القراءة ،فتظل مسيطرة على القارئ إلى حين.

يبدأ النص يتقرير ما يراه الشاعر ملائما لفكره ورأيه وقناعته ؛ حيث يعمل على توصيف بعض المعاني من خلال رؤيته الخاصة ، فيتحدث عن الشوق والهوى والحب والمني برؤيته هو…

ثم يخاطب “هندا” ويستعيد ذكراها التي ما غابت عنه ، حتى لو وُئِدت تلك البسمة ، ثم يمزج بينه وبين الطبيعة في تماهٍ رائع ؛ حيث يطربه الموج، ثم يسأله ، ثم يبعث قصيدته بين خيوط الشمس ، والطيور تشدو وتحلق ، ويظنها تحتفل رغم ما بها من الحزن والألم ، ثم يقرر حقيقة أن الحياة تمضي كما أراد لها الله ، والأيام تدول بين الناس ، فيفتح – لنا وله – نافذة أمل بأن الغياب ليس دائما ، لأنها دول :
حياتنا تتهادى في أعنّتها فيا غياب: رويدًا إنها دولٌ

تنوعت الأساليب في القصيدة بين الخبر والإنشاء ، وذلك يعطي النص قدرا من التشويق ، وكسر الرتابة ، ودفع الملل .
الخبر ،وهو الأكثر استخداما في النص ، ومنه:
الشوق لهفة روحٍ والمني أملٌ والحب رعشة قلبٍ والهوى شُعَلُ

فمن الإنشاء ورد الأمر في قوله:
دع الدموع لعينٍ لا تفارقها كأنها فرضتْ والعين تمتثل

ومزج – ببراعته المعهودة – بين الإنشاء والخبر في بيت واحد ، وهذه قمة القدرة اللغوية و البراعة البلاغية التي يتمتع بها شاعرنا:
يا هل ترد ليَ الأيام بسمتها ؟ غاب الصباح وحالتْ دونهُ السبلُ
فالشطر الأول إنشاء والثاني خبر.
وهنا أيضا :
وكنت أسمع عزف الموج يطربني فأين عزفك يا أمواج والجملُ
ولكنه بدل بينهما ؛ فالشطر الأول خبر والثاني إنشاء

من حيث المفردات ؛ فالنص وظفها في إطارها السليم ؛ مما جعلها قادرة على حمل المعنى ، متسقة مع بقية المفردات، فأكثرَ الشاعر من ذكر الكلمات الدالة على الطبيعة، وهي أمر محبب في الشعر ، ومنها :
البدر، الشمس ، الغيمة، الطير، الموج…

فكانت جميع مفرداته موحية بمعانيها ،وتحمل ظلالا أخرى إضافية يمكن للمتلقي استكناه ما يقصده الشاعر وأكثر.

ومن حيث العبارات والتراكيب والجمل ، فقد نوع شاعرنا بين الجمل الاسمية والفعلية ، ووضع كلا منها في مكانها الصحيح ، فالاسمية يستخدمها حيث أراد الثبوت والاستمرار:

ذكراكِ ما فتئتْ يا هند تُجهدني يا بسمةً وُئدتْ والشوقُ يحتفلُ

والفعلية – وهي الغالبة ؛ لأن نصه حي متحرك متمدد متجدد -حيث قصد التجدد والحدوث ، ومنها :
بعثتُ بين خيوط الشمس قافيتي لعل طيف حروفي نحوها يصلُ

القصيدة من بحر البسيط ، وجاء هنا في حالته التامة بأربع تفعيلات في كل شطر، وهو بحر ثنائي التفعيلة أو ما يسمى بالبحور الممزوجة :
مستفعلن فاعلن ، أربع مرات موزعة على الشطرين

أما الروي فقد اختار شاعرنا حرف اللام المضمومة ، واللام – كما هو معروف – من حروف الذلاقة، فمن خصائصها قدرتها على الانطلاق من دون تعثر في تلفظها، وتتسم بمرونتها وسهولة النطق بها.

تزخر القصيدة بالصور الشعرية بكل أنواعها الجمالية ؛ مما أكسب النص بُعدا جماليا ،يكتب له الخلود بسبب دهشة القارئ وإمتاعه ، ومن ذلك:
الاستعارة في “حاكَ الغيابُ” في قوله:
حاكَ الغيابُ ثيابًا لي لألبسها حتى الشموع لدور الشمس تنتحلُ !!

وكذلك في : بسمةً “وُئدتْ” ، في قوله :
ذكراكِ ما فتئتْ يا هند تُجهدني يا بسمةً وُئدتْ والشوقُ يحتفلُ

وما أروع هذه الصورة :
وكل غيمة بُعدٍ سوف تمطرنا وصلًا وكل عليلٍ منه يغتسلُ
فالغيمة في زمن التنائي تمطرنا -لا ماء- وإنما “وصلا “، يجمع المحب بحبيبه ، ويشفي العليل ؛ إذ يغتسل منه.

ويأتي الطباق وهو التضاد الذي يجمع فيه الشاعر بين المعنى وضده ؛ مما يبرز المعنى ، ويزيده وضوحا ، وذلك في :
بُعد، وصل
يبقى ، رحلت وغيرها كثير.

والمجاز المرسل في :
بعثتُ بين خيوط الشمس قافيتي لعل طيف حروفي نحوها يصلُ

حيث ذكر ” قافيتي” وهي جزء ، وأراد الكل ، وهو قصيدته.

يبرز الجناس ، وهو إيراد كلمتين تتشابهان في الحروف ،وتختلفان في المعنى ، والجناس يعطي النص بُعدًا موسيقيا جميلا بذلك الجرس الصوتي ، ومن الجناس :
الطير ، الطيور
بسمة ، بسمتها

كما يكثر الترادف في النص ؛ مما يؤكد المعنى ، ومن ذلك ما ورد في البيت الأخير :
حياتنا تتهادى في أعنّتها فيا غياب: رويدًا إنها دولٌ
بين “تتهادى” وهي فعل ، و”رويدك” وهي اسم فعل بمعنى تمهل، وهما بمعنى واحد.

بلاغة الشاعر فاقت الوصف ؛ حيث برز التناص في قصيدته ، وكان بارعا فيه حد الإتقان؛ حيث استغل معنى لشاعر آخر، لكنه لم يقتبسه ،ولم ينسخه وإنما نسج على معناه ؛ ” فالمعاني مطروحة في الطريق ” كما قال الجاحظ ، ومن نماذج التناص في القصيدة ، يقول شاعرنا :
تشدو الطيور ترانيمًا فتسعدنا والطير مرتجفٌ قد صابه الوجلُ
يبكي ونحسب أن السعد أنطقه ! وهل يفسر ما يشدو به رجلُ !!

إذ يتناص مع أبي صخر الهذلي:
وإني لتعروني لذكراك هزّةٌ كما انتفض العصفور بلّله القطْرُ
ومع :
ولا تحسبوا رقصي بينكم طربًا فالطيرُ يرقصُ مذبوحًا من الألمِ

وهناك تناص ختم به قصيدته، حيث قال :
حياتنا تتهادى في أعنّتها فيا غياب: رويدًا إنها دولٌ
وذلك يشبه قول الشاعر:
دع المقادير تجري في أعنتها ولا تبيتن إلا خالي البال

تأثُّر القرآن يبدو جليا في شعر شادي الساحل ، ومنه في هذا النص قوله:
أغمضتُ عينيَ والأحلامُ تسكنُها وارتدَّ طرفيَ والأحلامُ تنهملُ
وهو تأثر بقوله تعالى : ” … قبل أن يرتد إليك طرفك …” النمل 40

وكذلك في العنوان “إنها دول ” ، عنوان القصيدة ، وفيه تأثر بالغ بالقرآن الكريم ، في قوله تعالى : ” وتلك الأيام نداولها بين الناس” آل عمران 140

صوتيا ، برزت في النص موسيقا داخلية ، وذلك من تكرار حروف ومقارباتها في المخرج في بيت واحد ، ونلحظ ذلك في تكرار حرف العين والغين في الأبيات الثلاثة الأخيرة:
دع الدموع لعينٍ لا تفارقها كأنها فرضتْ والعين تمتثل
وكل غيمة بُعدٍ سوف تمطرنا وصلًا وكل عليلٍ منه يغتسلُ
حياتنا تتهادى في أعنّتها فيا غياب: رويدًا إنها دولٌ

وكذلك تكرار حرف السين :
يبكي ونحسب أن السعد أنطقه ! وهل يفسر ما يشدو به رجلُ !!
والشين في :
الشوق لهفة روحٍ والمنى أملٌ والحب رعشة قلبٍ والهوى شُعَلُ

لم يرتكب شاعرنا أية هنات لغوية ، ولا موسيقية ، حتى التي يعدها بعضهم خطأ ، فتجيزها الضرورة الشعرية ، بحجة ضبط الوزن ؛ إذ يجوز –هنا – للشاعر ما لا يجوز لغيره، حين صرف “ترانيم ” وهي ممنوعة من الصرف ، لأنها صيغة منتهى الجموع:
تشدو الطيور ترانيمًا فتسعدنا والطير مرتجفٌ قد صابه الوجلُ

هكذا كنا في سياحة مع قصيدة سليمة المبنى ، عميقة المعنى ، محكمة السبك ، رقيقة الألفاظ ، بديعة الصور.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

Tyaa67@gmail.com

عن إدارة النشر

شاهد أيضاً

[ شمس البردة ]

شعر/ منصور جبر ‏الله أكبر فاشهدوا الترديدا شمسٌ بمكة آذَنَتْ تجديدا والكونُ هَلَّلَ زاهيا مستبشرا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الرؤية: انطلقت جريدة روافد الإلكترونية من المدينة المنورة تساهم في تقديم الأخبار وتغطيتها، واستقصاء المعلومة بأسلوب يراعي أحدث المعايير المهنية ويحرص على ملامسة رغبات القراء المعرفية وتلبية احتياجاتهم المعلوماتية. وتعنى روافد بالشؤون المحلية، في دائرتها الأقرب، ثم تتسع دوائر اهتماماتها لتشمل شؤون الخليج فالعرب فالعالم.
الرسالة: توفير المحتوى الملائم للجمهور على مستوى التغطيات السياسية والرياضية والأخبار المنوعة، وتقديم التقارير والتحليلات السياسية والتحقيقات الصحفية في مختلف الأحداث بأسلوب يتماشى مع تطلعات الجمهور، وتقديم محتوى غير تقليدي من حيث الشكل والمعالجة. ولن تتوقف روافد عند حدود المهنية ومعاييرها، بل ستحرص على إضافة نكهتها الخاصة التي تمرّن فريق العمل عليها.