صبرى الموجى
شاءت ظرُوفها التعسة أن تقف في عربة القطار المُنطلق من القاهرة إلى مدينة طنطا محطة نزولها، حيث لم تجد مكانا للجلوس؛ إذ إنه وقتُ عودة الموظفين وطلبة الجامعات إلى مواطنهم الأصلية.
أخذ القطار يضيق بالركاب رويدا رويدا إلى أن صار عند انطلاقه أشبه بعُلبة (السردين) ليس فيه موضعٌ لقدم، وأضحى من استطاع الوقوف على رجليه داخل العربة من ذوى الأملاك يحسُده من وقف على درج باب القطار المفتوح على مصرعه، يُحاذر السقوط المُفضي إلى الموت.
كان من بين الركاب فتاة في ريعان الشباب، حباها الله جمالا يخطفُ الأبصار، فالتف حولها كلُ من دلف من عربة القطار؛ عساه أن ينعم بنظرة حانية أو كلمة تنسيه غصة الزحام الأشبه بيوم الحشر، ضاقت الفتاة ذرعا بازدحام العربة، وما استتبعه ذلك من نظرات فتاكة، وأياد طائشة التطمت بها وبرر أصحابُها – كذبا – أن ذلك لم يكن عن قصد.
أبصرتُ المشهد عن قرب، حيث كنتُ أحد المحظوظين الذين ظفروا بمقعد للجلوس حتى محطة النزول، فراعني ما تعانيه تلك الفتاة من مضايقات تصبب لها وجهُها عرقا، فأرادت النزول قبل إقلاع القطار، ولكن هيهات لها أن تصل إلى الباب.
حدثتني نفسى أن أقوم لتجلس مكاني، فخانتني رجلاي مخافة ما ينتظرُني إذا أقدمت على تلك الخطوة الجريئة من التطام والتحام وعرق للركب، وربما (نشل حافظة النقود)، وكسر (نظارة القراءة) التي علقت بجيبي.
لم يتركني وخزُ ضميري أهنأ بالجلوس على مقعدي الصُلب، إلا أنه إذا ما قورن بالوقوف ألين من ريش النعام، فبلعت (حبة شجاعة) وهممتُ واقفا تاركا مقعدي الذي لو شئتُ لأخذتُ عنه (خلو رجل) لتلك الفتاة المسكينة، التي ثمنت صنيعي، وانبرى لسانها يلهج لي بالدعاء.
مشهدٌ كثيرا ما نراه إما في المواصلات العامة أو في طابور إحدى الجمعيات التعاونية، أو أمام مخبز أو مصلحة حكومية، حيث يتصارع الجميع للوصول إلى مأربه وقضاء مصلحته، دون الالتفات إلى ضعف امرأة أو براءة طفل أو أنين مريض، أو توسلات عاجز، فصار لسان حال الكل: (أنا ومن بعدى الطوفان).
إننا أمةٌ يتنامى عددها عاما بعد عام رغم ثبات الموارد، فصار ما كان يتنعم به الفرد أمس ملكا للعشرات بل المئات اليوم.
وتعايشا مع تلك الأزمة، أزمة زيادة العدد وثبات الموارد لابد لنا من القناعة والرضا، والتعاون على البر والتقوى، وإغاثة الملهوف، ونصرة المحتاج، ورحمة الضعفاء؛ لكيلا نصير سباعا ضارية يأكل القوى الضعيف، ويبطش ذو العز والسلطان بمن لا شوكة له ولا عزوةَ تحميه.
إن ديننا دينُ رحمة، يدعو إلي التعاون ومكارم الأخلاق، ويرفض الفسوق والعصيان، وأي فسوق أشدُ من قهر صبي، وظلم امرأة، وغض الطرف عن استغاثة مُحتاج وأنين مكلوم، وأكل أموال الناس بالباطل؟.
أيُ ظلم أشد من تعطيل مصالح المواطنين، بحجة أن السيد المسئول (معه تليفون) يُناقش فيه مع حرمه المصون قضايا الساعة مثل: ماذا أعدت على الغداء؟، وهل جهزت الأسرةُ نفسها لحفل المساء وخلافه !
أيُ ظلم أشدُ من حبس أوراق الناس في الأدراج؛ انتظارا لمظروف محشو ببنكنوت مقابل تأدية الخدمة، وعدم تعطيل المصلحة؟
أيُ ظلم أشد قُبحا من أن يدفع المرءُ الرشاوي – المُسماة زورا بالإكرامية – ليلتحق ابنُه بأفضل الكليات، ويُحرمُ ابنُ من لا يقدر على دفع الرشاوى حتى ولو كان هو الأكفأ والأحق؟
أيُ ظلمٍ أشدُ من السلبية ورفع شعار (الباب اللي يجي لك منه الريح سده واستريح)، وما يستتبعُ ذلك من صمت عن قول الحق ومُجابهة كل صور الفساد : سواء في العمل أو البيت أو الشارع أو المتجر وخلافه؛ مما يزيد معه اتساعُ الخرق على الراقع فتضيع حقوق، ويُظلمُ أشخاصٌ وتفسدُ أمة كانت وستظل خير الأمم إذا ما حرص أفرادُها علي أن يكونوا إيجابيين !