في مطلع عام 2012 في بيت صغير مليء بمزروعات ذابلة يبدو جليا ألا أحد يعتني بها أو يتذكر أن يسقيها، بنظرة عامة لملامح البيت يبدو أنه كان أنيقا وحيويا يوما ما ويضج بالحياة، وقفت هناء في المطبخ الخالي تبحث عن أي شيء يمكنها إعداده ليؤكل لتطعم الأفواه الجائعة.
تعيش مع أبنائها لوحدها منذ عامٍ تقريباً بعد أن اختفى زوجها ولا تعرف عنه شيئا وهاجر أهلها لبلد آخر ورفضت مرافقتهم على أمل عودة زوجها، ولكنها نادمة الآن، تندم في كل صباح عند تفكيرها بالطعام وتندم أضعافاً عندما يعلو صوت القصف وتضطر للاختباء أسفل السرير مع صغارها الثلاث.
وقفت هذا الصباح ولم تجد شيئاً قابلاً للأكل أبداً فمدَّت يدها لصدرها وأخرجت أواخر ما تبقى معها من مال ونادت كبيرها (الصغير) عُمر ذو الستة أعوام والذي يشغل منصب رجل العائلة منذ اختفاء والده، أعطته النقود وطلبت منه بعض الخضرواتوالحبوب التي يجدها في محل أبو صبحي في الطرف الآخر من الحي، خرج الصغير ممسكا بيد أخوه الأصغر منه بعام ليعاونه بحمل ما يشترونه في طريق العودة، مشيا بحذر ومراّ ببيت جيرانهم الذي صار ركاما منذ عدة أشهر وخلا من سكانه، وصلا خلال دقائق إلى الدكان دون عقبات رغم الأصوات التي تدوي بين اللحظة واللحظة منذرة ببرميل انفجر أو قصف قريب، نظر له العم أبو صبحي بحزن وقال: ودكاني فارغ كمنزلكم أيضا يا بني إلا من هذه المعلبات والمنظفات القليلة، لم تصلني أي شحنة من المزارع أو التجار فالطريق كانت مقفلة الأيام الماضية، ورأى الحيرة في عيني الصغير فأكمل كلامه: ولكن في المتجر الكبير في سوق المدينة ستجد حتما ما تريد ولكن أسعارهم أعلى من أسعاري فخذ كمية قليلة وستكفي نقودك، نظر عمر للطريق ثم نظر لأخيه الصغير وقال لأبو صبحي: هل بإمكان أخي أن يجلس عندك ريثما أعود فالطريق طويل وسيتعب، ولم ينتظر الإجابة وخرج وهو يقول: لو حدث شيء أو تأخرت خذه إلى المنزل حتى لا تقلق أمي.
مشى عمر وبعد خروجه بساعة تقريبا بدأ القصف وامتلأت السماء بدخان وأصوات قريبة مرعبة، على عجل أغلق أبو صبحي الدكان وأمسك بيد الصغير الذي كان يخط اسمه بحجار صغيرة على الأرض، أمسكه وهرول باتجاه بيتهم، طرق الباب طرقات متتالية: يا أم عمر يا أم عمر خذي ولدك بسرعة لأنجو بنفسي أنا أيضا، أطلت من الباب: أين عمر لا أراه، أخبرها بأنه رجل صغير وبأنها يمكنها الاتكال عليه سيحمي نفسه بأي مكان فحجمه صغير وسيعود لها بما طلبت، أغلقت الباب ونيران قلق تلهب صدرها ولكن ما باليد حيلة، اشتد القصف واشتد قلقها وبدأت بلوم نفسها على إرساله بظروف كهذه ولكنها واست نفسها بأنهم كانوا سيموتون من الجوع فعلا لو لم يذهب ليحضر أي شيء يؤكل.
مضت الساعات والقصف مستمر وغبار ركام المباني التي تسقط يملأ الجو وأم عمر لم تعد رجليها تحملانها وهي تجلس أرضا وحولها صغيريها، ومع خطوط ضوء الفجر الأول سمعت طرقات واهنة على الباب، عاد عمر حاملا بيده كيسا مليئا بالحبوب وبعض الخضر، دخل منهك وجائع ونعس كرجل حقا عاد من عمل مُهلك وليس كطفل صغير يحمل مسؤولية أكبر منه، حكا لأمه كيف بدأ القصف بعد خروجه من السوق مباشرة وقال لها بأن شيئا ما سقط وانفجر على مقربة منه وكيف اختفى واحتمى بين شجرتين صامدتين….
عاد عمر، ولكن جزءا آخر من روحه الطفولية فُقد، لم يعد، ففي كل مرة كان يلبس فيها ثوب الرجل كان يفقد جزءا ومع استمراره على هذا الحال مع وصوله للسابعة من عمره سيفقد آخر جزء من الطفولة المليئة ب(الاتكال).
القصة السابقة حقيقية وواقعية وربما فرضت الحرب أحمالها وأوزارها وآلامها على كل من عاشها، ولكن لم تفرض على أي أم أن تستبدل الأدوار وأن تُلبس صغيرها ثوب رجل وأن تُحمّله مسؤولية شخص بالغ مهما بدا قويا وواثقا وكفؤاً، سمعت القصة السابقة من إحدى قريبات هذا الطفل بكل تفاصيلها وسمعت مدحاً له ورووا أيضاً مواقف أخرى مشابهة له وحكوا بإشفاقٍ عن الأم وكيف انها تقلق عليه عندما ترسله أو تطلب منه أمرا ما…. ولم أستطع إلا الانزعاج منها بقلبي، استذكرت الفتى عمر مع قراءتي لرواية (شجرة البرتقال الرائعة) التي تحكي قصة صغير في الخامسة يُعامله الجميع على انه كبير لأنه ليس أصغر إخوته ولأنه واعي وذكي، حتى قرر الصغير بأن عقله عقل شيطان لأنه يخطأ كثيرا ويغضب منه الجميع كثيرا ولا يتحمل المسؤولية بشكل جيد، يحكي كاتب الرواية كيف أن كل ما كان يحتاجه الصغير هو من يفهمه ويسمع لترهاته حتى قرر مصادقة شجرة في حديقتهم وأطلق عليها اسما وصار يحكي لها مغامراته ومعاناته وما يشعر به، رواية مليئة بالتفاصيل ومليئة بعدم فهم الطفولة المبكرة وبأنها فترة اعتماد على الأهل يخالطها تعليم تحمل المسؤولية بطريقة يجب أن تكون مدروسة جدا.
في تربية الأبناء الذكور في مجتمعاتنا خلط كبير بين تنشئة طفل يُعتمد عليه وكفء لتحمل المسؤولية وبين طفل فاقد لطفولته ولمتعة ارتكاب الأخطاء والهفوات والتعلم منها لأن المطلوب منه التصرف كناضج.
الخوف المفرط أحيانا من ولدٍ (دلوع مايع) لا يتحمل المسؤولية أو لا مبالي يؤدي لقسوة غير مبررة، ربما بسبب رؤية الأهل لنماذج في حياتهم وخوفهم من نشوء ابنهم بشكل يشبه ما كرهوه.
في المقابل نجد العديد ممن انتبهوا لسوء القسوة أو ربما عانوا منها في طفولتهم فابتعدوا عنها، ولكنهم أفرطوا في الابتعاد فتربى الصغير بحب ودلال وإحساس بلا حزم من نوع الحزم الواجب.
الحزم والدلال في تربية الأبناء متلازمان، خطان متوازيان فكما الحاجة لهذا تكون الحاجة للأخر، وفي الإفراط بعض الأحيان فيأحدهما يكمن الاختلاف في تربية البنت عن الولد فالزيادة مطلوبة أحيانا هنا، وأحيانا هنا حسب الموقف وحسب شخصية وتكوين الطفل، على ألا يُفقد الإحساس بالحب مهما كان الموقف مع الحزم أو مع الدلال أو حتى مع العقاب.
في التاريخ الكثير من القصص الملهمة التي تسوقنا للضغط والشدة على الأبناء، الذكور منهم تحديدا كصغار قادوا الحروب وترأسوا الجيوش وحفظوا وألَّفوا كتبا وحفظوا مجلدات، بطريقة تُبهر أي أب وأم محبين لأبنائهم ولا أظن أبا أو أما لا يرغبون ويحلمون بأن يكون ابنهما قائدا بشخصية قوية، مُتحدثا يُبهر من يسمعه، ولكن للوصول لهذا الهدف خطوات أولها الاستعانة بالله ثم الحب ثم الثقة ثم عدم القسوة وخلطها بالحزم، كونوا صارمين بالقوانين التي تتفقون عليها مع الأبناء، ضعوا جداول حسب قدرات ابنكم وكونوا حازمين بتطبيقها ولكن بلا قسوة بلا غضب لو لم يُنجز ما عليه، بالتحفيز واللين نحصل على ما نريد على نهج وهدي قدوتنا خير البشر بالتعامل مع الأطفال واليافعين، عاش معه أنس بن مالك عشر سنين وهو بسن صغيرة فقال: ما لامني قط، خرَّجت المدرسة النبوية رجالاً بحق وخرَّجت قادة وسادة سادوا الدنيا ..!! ولكن هل فكرنا وبحثنا يوماً عن كم المشاعر الذي أغدقه محمد صلى الله عليه وسلم على كل من ربَّاه ؟!
أسماء السكاف