بقلم إبراهيم خضر
حتى أؤلف كتب وأضع عليها – اسمي – كان لازمًا عليّ أن أواجه بعض الأمور وأتجاوزها، كأن أقرر مثلًا أن أخذ على عاتقي فك الغموض بالكتابة عن كل شعور التزَمَ الصمت وأصفُه كما هو لا كما أُحبذ، كذلك كأن أتفلسف ولكن دون أن أُتوه نحو اللاساحل، كأن أتألم ولكن مع ترك باب الحياة مواربًا لترقب أي أمل … كثيرة هي الأمور التي جعلتني أتهيب من الولوج بعالم الكتابة خشية الفشل فيه.
في كتابي الأول “بدون موسيقى” فتحت إذن قلبي لشعور قد يسبب جلبه في عقلي، وأخيرًا أخذني ذاك الانفتاح للعالم الموازي للواقع، أقصد ذلك الجانب الصامت الذي يسكن كل انسان، الجانب الذي يُهلوس فيه مع نفسه بأحاديث قد تكون بعيدة عن العقل لكنها قريبة من الحقيقة.
فنجحت في تحريك شيء ما بداخلي عندما أُزيح في صدري ستار، ثار غبار إثر تحركه، فظهرت خلفة أكوام من أشياء فاتني أن أرقص معها وأشياء فاتني أن أبكي عليها، رحت أهتم بتلك الأشياء، وانفض عنها غبار الخُردة، بجراءة من مر وقت على ألمه فأصبح يُذيِّل ذلك الألم بابتسامة… ثم انفعلَ قلمي واستطعت أن أُعيد تدوير تلك الخُردة لكتاب.
لازلت أسعى دائمًا لأن أُبقي قلمي كالقاضي النزية، استمع للعاطفة وأحكم بما تقتضيه المصلحة، فكتبت مجموعتي القصصية الأولى “ليته يضخ الدم وحسب” والتي ظهرت فيه القصص أشبه ما تكون بمحاكمات عقلانية ولكنها عُقِدت في قلبي.
في كتابي الثاني هذا كانت الكتابة تُشبه محاولة أن أحكِ بالقلم ما لم يطوله كتابي الأول من ظهر عالمي الكبير جدًا.
لكن وجدت أني في كِلا الكتابين أرمي سِنَّارة قلمي للماضي.
أمّا في كتابي الثالث “أولئك الذين قرروا الحُب” ناديت القادم من الأيام تعالي وثقفي المطر بطريقة أخرى للهطول … فطرقت باب النصوص القصيرة جدًا كأسلوب لأول مرة، بعد أن قررت أن أكتب عن شعور مُلِم بكل المشاعر، عندها اخترت الحُب كممثل لذلك، والذي دفعتني الطمأنينة فيه للتجذُّر دون أن تُشوِّه بعض نهاياته الحزينة تجذُّري ذاك، فلطالما كان الحُب هو الطريقة الفُضلى في إشهار الرغبة في الحياة، على الأقل في كل بداياته.
واجهت نفسي كثيرًا في هذا الكتاب واضطررت أن أتقدم كل مرة لأطوي صفحة عريضة جدًا في حياتي، دهست بِضع مشاعر .. وقفزت عن مشاعر .. والتقطت الكثير من المشاعر ومنحتها الخلود في صفحاته.
وبإحدى الليالي خاطبت نفسي لن أفكر في شيء الليلة وسأنام باكرًا وبعد أن أطفأتُ نور الأباجورة مباشرة تسللت إليّ من ذاكرة الظلام تفاصيل عن حياة إحدى شخوص قصة قصيرة كتبتها ولم أضع لها نهاية بعد، تأففت رغبتي في النوم حينها إثر ذاك الاختراق، والتقطتُ الهاتف وفتحت مذكِّرة ورحت أُعيد قراءة القصة تلك، لا أعلم لماذا ولكن لعلها قررت أن تكتمل الليلة، فمنحتها نهاية لائقة بعد وقت من الانقطاع، فدائمًا ما كان تصوّر النهايات يُتعِب أكثر من كتابتها.
هذا ما تصبح عليه حياة الكاتب، ليس لأطراف حياته أبواب مغلقة، في أيّ لحظة من الممكن أن يدخل عليه ألم أحدهم ويتلبسه كأنه ألمه، تطرأ أغنية على مسامعه لدقائق وتنتهي لكنها تخرج منه كقاتل ترك خلفة مئة أثر.
لا أذكر أني وقفت عند حافة أي فكرة، فورًا أُلقي بنفسي فيها فأسقطُ إلى أعماقها كاتبًا، إن الطريق للكتابة ليس بسهل، أنت تحتاج أن تقضي فيها من أفضل أوقاتك أوقات حتى تروِّض الصمت، يمضي الوقت وأنت تمسح على ظهره وكأنه جوادك الذي سيأخذك للمعركة.
واليوم غير تلك الكُتب كتبت عدة كتب أخرى منها “الفراشة التي بداخلي” و “مقهى فارغ وأغنية قديمة” و “أنا أتحسن بِك” … إن الكتابة فعل ممتع يا أصدقائي، إنها جَلبة لتحريك الوقت، كما أنها تمنحك فرصة لمصافحة أشياء فاتتك، وكلما كتبت كان يخِفّ وزن روحي، لم أستطع أن أمشي إلى أخِر خلية أسى في الجرح إلا عندما أكتب عنها، حيث تهُب كلمات البوح على الألم وتُخلخِل أركانه حتى تقتلعه ثم تذروه رياحها في الورق كما رماد، يُقال أن في الكتابة حياة وولادة وأنا أُضيف؛ إن الكتابة مكان مناسب للموت