بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
ما من شكٍ أن مسيرة الأعلام الإسرائيلية السنوية، التي ينظمها المستوطنون الإسرائيليون، اليمينيون المتدينون، والمتطرفون القوميون، وترعاها الحكومة وتؤمنها قوات الجيش والشرطة، بمناسبة ما يسمى ذكرى “توحيد شطري مدينة القدس المحتلة”، لم تجرِ هذا العام وفق المخطط والمأمول، ولم ينجح منظموها والداعون لها في تحقيق أهدافهم والوصول إلى غاياتهم المنشودة، فقد اعترضت المقاومةُ الفلسطينية مسيرتهم هذا العام بصورةٍ لافتةٍ، وقالت كلمتها الحاسمة بقوةٍ ووضوحٍ، وهددت بجديةٍ وتوعدت بحزمٍ، ووضعت أمامها الكثير من العراقيل والعقبات، وهددت سلامة المشاركين فيها وأمن الكيان ووهم سيادته، فتم تأجيلها مرتين، وغيرت الشرطة الإسرائيلية مسارها وحددت خط سيرها بدقةٍ وحزمٍ أكثر من مرةٍ.
لم يعد خافياً على أحدٍ أن مسيرة الأعلام التي جرت يوم أمسٍ في الشطر الشرقي من مدينة القدس، كانت استفزازية وكيدية، وفيها الكثير من التحدي والعناد، والإصرار والمواجهة، وقد سبقتها تصريحاتٌ وتهديداتٌ، لكنها بدت باهتةً ضعيفةً، محصورةً مقيدة، خاضعة للشروط وملتزمة بالاتفاق، رغم أن الكيان الصهيوني كله، حكومةً وجيشاً، وأحزاباً وهيئاتٍ، كانوا يراقبونها على أعصابهم، ويتابعون مسارها بخوفٍ وقلقٍ، ويخشون في أي لحظةٍ أن تفلت الأمور من بين أيديهم، وتنزلق المنطقة كلها من جديدٍ إلى مواجهةٍ عنيفةٍ، تخشى الحكومة الجديدة أن تنجر إليها في أول يومٍ لها في السلطة.
قد يرفض البعض أن يعترف أن المقاومة الفلسطينية قد فرضت شروطها، وحققت بعض مرادها، وتمكنت من تثبيت معادلاتها الجديدة، وأخضعت العدو لبعض ما تريد وربما أكثر، ولكن الحقيقة التي لا ينكرها العدو، ولا يستطيع أن يخفيها حاقدٌ أو كارهٌ، أو ينكرها جاهلٌ أو غير عارفٍ، أن المقاومة الفلسطينية قد دخلت لأول مرةٍ منذ أكثر من خمسين عاماً على خط المسيرة ومسار المظاهرة، وأن ما كان قبل هذا العام مختلفٌ كلياً عما جرى يوم أمس، وهناك من الوقائع والمشاهدات، والبراهين والملاحظات ما يؤكد هذا الزعم ويقويه.
فالمتابع للمسيرة ابتداءً وانتهاءً، يدرك أنها تعطلت وتعرقلت، وأنها لم تجرِ في موعدها المقرر يوم العاشر من مايو/آيار الماضي، رغم أن هذا هو وقتها المحدد منذ سنواتٍ، إذ أفشلتها صواريخ المقاومة التي توعدتها وأنذرتها، وهددتها وحذرتها، ونجحت في تفريق صفوفها وتفتيت جموعها، رغم تحضيرات المنظمين المسبقة، واستعدادات المستوطنين المهووسة.
كما أن حكومة نتنياهو البائدة قد عجزت عن تنفيذها قبل رحيلها، وطلبت من شرطة القدس تأجيلها وتحديد موعدٍ آخر لها، رغم أنها من شجعت عليها وسهلت إجراءها، لكنها وقد كان القرار السيادي لها، جبنت عن تنظيمها، وأخَّرت اجراءها إلى حين استلام الحكومة الجديدة مهانها، ربما بقصد اختبارها وإحراجها، والضغط عليها لإظهار عجزها وفشلها، تمهيداً لإسقاطها وإخراجها.
كما دخل الوسطاء الدوليون والإقليميون على خط المسيرة، فتكثفت الاتصالات بقيادة المقاومة الفلسطينية، ومارسوا ضغوطاً كبيرةً عليها، بقصد غض الطرف وضبط النفس وتمرير المرحلة، وعدم التدخل لإفشال المسيرة أو تعطيلها، ولكنهم أجبروا على الإصغاء لشروط المقاومة واحترامها، وتأكيد التزام العدو بها وعدم خرقها، وإلا فإنها ستتدخل بطريقتها ولديها الجاهزية للتدخل السريع، والقدرة على التأثير والضبط، وقد اعترف مسؤولون إسرائيليون بأنها طلبت تدخل الوسطاء لدى المقاومة، وأبدت التزامها بشروطهم.
أما خط سير المسيرة فقد تغير وتبدل، ولم يجرِ وفق المخطط القديم والمسار الجديد المأمول، وتم اختصاره لئلا يمر في الأحياء العربية في مدينة القدس، وهو ما كانوا يريدونه ويتطلعون إليه، ليؤكدوا رسالتهم السياسية والدينية، أن مدينة القدس هي عاصمة كيانهم الأبدية والموحدة، رغم أن المتظاهرين تجمعوا في ساحة باب العامود ورقصوا فيها، ورفعوا أعلام كيانهم واستمعوا إلى كلمات زعمائهم، إلا أن جموعهم كانت مهزوزة وخائفة، ورسالتهم كانت منقوصة وعلى غير عادتها.
أما أعداد المشاركين بالمقارنة مع المسيرات السابقة فقد كانت جداً قليلة، ونوعيتهم مختلفة، فقد اقتصرت المشاركة على قلةٍ من غلاة المستوطنين وبعض القوميين اليمينيين، إذ تقدر وسائل الإعلام الإسرائيلية أن عدد الذين شاركوا في المسيرة لا يزيدون بحالٍ عن الألف متظاهر إلا قليلاً، في حين أن عدد المشاركين في مسيرات السنوات الماضية كان يفوق العشرة آلاف بكثيرٍ.
وما كان لهذه المسيرة أن تنظم وتجري لولا مشاركة أكثر من ألفي عنصر من الشرطة والجيش الإسرائيلي، الذين حولوا المنطقة كلها إلى ثكنة عسكرية مغلقةٍ، منعوا خلالها الفلسطينيين من الدخول إليها أو الاقتراب منها، ونفذوا فيها عشرات الاعتقالات، وقاموا بضرب من نجح من الفلسطينيين، من الرجال والنساء، بالتسلل إلى المنطقة، حيث سجلت عدسات المصورين حالات الضرب والملاحقة والاعتقال.
إنها تجربةٌ ناجحةٌ ومحاولةٌ أولى مبشرة، قد تتلوها محاولاتٌ جديدة ومعادلاتٌ أخرى أشد أثراً وأكثر وضوحاً وأقوى فعلاً، فالإسرائيليون الذين أخذوا تهديدات المقاومة على محمل الجد، فَفَّعلوا منظومتهم الفولاذية، ووضعوا جيشهم في حالة استنفارٍ وجاهزيةٍ، وحولوا مسار طيرانهم المدني وعطلوا بعض رحلاتهم الجوية، يدركون تماماً أن المقاومة الفلسطينية قد نجحت فعلاً في فرض شروطها، وتثبيت معادلتها، وأنها ستكون في المراحل القادمة أكثر جاهزية وأسرع رداً، وأبلغ فرضاً وأصدق وعداً.