– ديناميكية غايات العقد الاجتماعي ضرورة لمواكبة دور الدولة لطموحات الشعوب
-جائحة كورونا فرضت تحول الحكومات إلى عقد اجتماعي جديد يركز على حماية الوظائف وضمان العدالة الاجتماعية وتقليل أوجه عدم المساواة ودعم التعافي المستدام
-الحكومات العربية تبنت في ضوء العقد الاجتماعي الجديد حزم للتحفيز بلغت قيمتها 281 مليار دولار، 49 في المائة منها تحملتها الموازنات العامة بهدف دعم الأسر والأفراد وتعزيز مرونة وديناميكية الاقتصادات العربية
-تعزيز آليات التواصل وزيادة المشاركة المجتمعية ضرورة لضمان دعم المواطنين لمؤسسات الدولة في سعيها لتحقيق غايات العقد الاجتماعي الجديد
-إشراك القطاع الخاص في تحقيق الغايات الوطنية في إطار المسؤولية المجتمعية من شأنه تحقيق التماسك الاجتماعي وزيادة مصداقية العقد الاجتماعي وتخفيف الضغوطات على الموازنات العامة
-الانضباط المالي والاستدامة المالية ركيزة أساسية لتعزيز قدرة المالية العامة على تعبئة الموارد لتلبية استحقاقات العقد الاجتماعي الجديد
روافد / اللجنة الإعلامية:
في إطار حرصه على تطوير أنشطته البحثية، أصدر صندوق النقد العربي العدد العشرين من سلسلة موجز سياسات بعنوان ” نحو عقد اجتماعي جديد في الدول العربية: دور المالية العامة”. أشار الموجز إلى أن دور الدولة قد شهد على مدى القرون الماضية العديد من التحولات بما يتلاءم مع طبيعة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والفكر الاقتصادي السائد في كل عصر من العصور. في هذا السياق أشار الموجز إلى أن الحديث عن دور الدولة في النشاط الاقتصادي ينصب بالأساس على الآليات الكفيلة بترشيد دور الدولة وتحسين أدائها، وليس مناقشة مدى أهمية وجود دور للدولة في الحياة الاقتصادية من عدمه. بالتالي فما يجب التركيز عليه هو الشكل الأمثل لتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية.
هذه العلاقة التي تربط وتجمع ما بين الدولة والمواطن، درج المفكرون على تسميتها بما يُعرف “بالعقد الاجتماعي” (Social Contract). فالدولة وفق هذا العقد مطالبةً بالعمل على تلبية بعض الاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية لمواطنيها التي تختلف من حقبة لأخرى ومن دولة لأخرى. أشار الموجز إلى أنه رغم تعدد وتباين غايات العقد الاجتماعي ما بين دول العالم، إلا أن فكرة العقد الاجتماعي قد شهدت تحولاً ملموساً في أعقاب انتشار جائحة كوفيد-19 خلال عامي 2020 و2021، حيث أعادت الجائحة الاعتبار لدور الدولة بشكل عام.
ففي ظل الفقدان غير المسبوق لفرص العمل الذي بلغ وفق تقديرات منظمة العمل الدولية نحو 225 مليون وظيفة بدوام كامل عام 2020، وارتفاع عدد السكان تحت خط الفقر بنحو 130 مليون نسمة خلال العام الماضي، وخسارة العالم لمكاسب عقود من التنمية البشرية نتيجة التراجع المسجل في مستويات التعليم والصحة والدخول، وزيادة مستويات عدم المساواة بمختلف صورها وأشكالها خاصة في ظل تأثر سبل عيش ما يقدر بنحو 1.3 مليار عامل يمثلون ما يقرب من نصف القوى العاملة في العالم، اتجهت حكومات دول العالم إلى تبني حزم مالية ونقدية ضخمة للإبقاء على الوظائف، ومساندة مؤسسات الأعمال، ودعم التعافي الاقتصادي.
فرضت هذه الأزمة عودة دور الدولة بقوة في عدد من المجالات، تمثل أبرزها في ضمان أقصى مستويات للمُنعة الاقتصادية والاجتماعية في مواجهة الجائحة، مع ما يفرضه ذلك من وجود دور فاعل للدولة في الإبقاء على الوظائف وتعزيز دور شبكات الحماية الاجتماعية، وزيادة مستويات مرونة وديناميكية القطاعات الاقتصادية في مواجهة الجائحة، مع ما يستلزمه ذلك من الدفع باتجاه تسريع وتيرة التحول الرقمي.
ناقش الموجز التغيرات التي شهدتها غايات العقد الاجتماعي في الدول العربية خلال الفترة (1960-2021) مشيراً إلى أربع تحولات رئيسة في هذا الإطار بما يشمل:
1. دور الدولة كموفر أساسي لفرص العمل وموظف للعمالة: الفترة منذ عقد الستينيات وحتى الثمانينيات من القرن العشرين (1960-1989): حيث انصب دور الدولة خلال تلك الفترة على التدخل بشكل كبير في النشاط الاقتصادي من خلال تأسيس العديد من شركات القطاع العام و بروز دور الدولة كموظف رئيس للعمالة خلال هذه العقود، ما نتج عنه زيادة كبيرة في أعداد العاملين في القطاع العام سواءً في الدول العربية المستوردة للنفط أو المصدرة له، والتي ركزت من خلال هذا العقد الاجتماعي على التوظيف في القطاع العام كآلية لتقاسم العائد الاقتصادي. في المجمل، لم يُؤت هذا العقد الاجتماعي ثماره المرجوة بالنسبة للمواطن في ظل تراجع مستويات الكفاءة الإنتاجية، وتضخم مؤسسات القطاع العام، وارتفاع مستويات البطالة المقنعة، ومن ثم عدم قدرة الدولة على الاستمرار في توظيف المزيد من العمالة، وضعف مشاركة دور القطاع الخاص.
2. دور الدولة الداعم للقطاع الخاص والمُهيأ لبيئات الأعمال خلال الفترة (1990-2010): في ضوء ما أسفر عنه العقد الاجتماعي المُتبني في الفترة السابقة لعقد التسعينيات، تسارعت وتيرة الإصلاحات الاقتصادية المنفذة في الدول العربية خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين بهدف دعم القطاع الخاص وزيادة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي والتشغيل. أسفر هذا العقد الاجتماعي عن زيادة في مستويات مشاركة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي في العديد من الدول العربية. رغم التحسن المسجل في مستويات مشاركة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي نتيجة العقد الاجتماعي المُتبنى خلال تلك الفترة، إلا أن هذا التحسن لم يصاحبه تحسن مماثل أو بالقدر المأمول من مشاركة القطاع الخاص في التوظيف، كما لم يتم توزيع ثمار النمو المحقق بعدالة على كافة شرائح السكان، وهو ما انعكس سلباً على مستويات رضا المواطنين في عدد من الدول العربية على العقد الاجتماعي المطبق أنذاك.
3. دور الدولة في ضمان عدالة نفاذ كافة المواطنين إلى الفرص الاقتصادية خلال الفترة (2011-2019): أصبح واضحاً بداية من العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين أن نماذج العقد الاجتماعي السابقة التي تبنتها الدول العربية لم تنجح بشكل كبير في تلبية طموحات مواطني الدول العربية لعدد من الأسباب، لعل من أهمها عدم نجاح هذه النماذج في ضمان عدالة توزيع الفرص الاقتصادية ما بين كافة المواطنين، وفي ضمان النمو الشامل والمستدام في عدد من الدول العربية. في ضوء ما سبق، شهدت فكرة العقد الاجتماعي تحولاً في عدد من الدول العربية لتتمحور بالأساس خلال تلك الفترة على “دور الدولة في ضمان عدالة النفاذ إلى الفرص الاقتصادية”. كما كان واضحاً في هذا السياق أهمية قيام الدولة بتشجيع دور القطاع المالي في تيسير فرص النفاذ للتمويل خاصة بالنسبة للإناث، والشباب والمؤسسات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة.
4. العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين: دور الدولة كداعم للمُنعة الاقتصادية والاجتماعية في أعقاب جائحة كوفيد-19: شهد دور الدولة تنامياً واضحاً في الدول العربية بداية من عام 2020 وفي أعقاب انتشار جائحة كورونا، حيث لعبت الحكومات العربية دوراً مهماً في التخفيف من حدة التبعات الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن الجائحة وتبنت حزم للتحفيز بلغت قيمتها نحو 281 مليار دولار أمريكي حتى نهاية الربع الأول من عام 2021، بهدف دعم الأسر والشركات وتعزيز مرونة وديناميكية الاقتصادات العربية، مُوَّل 49 في المائة منها من الموازنات الحكومية. تميز هذا العقد الاجتماعي وبخلاف العقود السابقة بتركيز دور الدولة على وجه الخصوص ومن خلال السياسة المالية على عدد من المجالات جاء على رأسها الإبقاء على الوظائف، ودعم الفئات الهشة، وتسريع وتيرة التحول الرقمي.
بين العدد العشرون من سلسلة موجز سياسات صندوق النقد العربي تجدد الدعوات في ضوء جائحة كوفيد-19 إلى عقد اجتماعي توافقي يلبي طموحات الشعوب العربية تشترك في صياغته كافة شرائح المجتمع والمنظمات المدنية، وقطاعات الأعمال، وعقد اجتماعي احتوائي لا يستبعد أي فئة من فئات المجتمع، ويستهدف تحقيق غايات وطنية مشتركة تتمحور حول تحقيق مستويات نمو اقتصادي شامل ومستدام ومتوازن بيئياً يراعي حقوق الأجيال الحالية والمستقبلية، ويتضمن تحولاً جذرياً في معاملة الدولة لمواطنيها في إطار علاقة مؤسسية تحكمها المسؤولية والشفافية والنزاهة باتجاه ضمان العمل اللائق، والمساواة بين الجنسين، والعدالة بين الأجيال وفئات المجتمع المختلفة.
أشار الموجز إلى أن صياغة العقد الاجتماعي لابد وأن تتم وفق عملية تشاركية تجمع بين كافة فئات المجتمع والقطاع الخاص والشباب ومنظمات المجتمع المدني والاتحادات المهنية من خلال سلسلة من الحوارات المجتمعية المعلنة في كافة وسائل الإعلام المرئي والمسموع ووسائل التواصل الاجتماعي لضمان تأييد المواطنين لمؤسسات الدولة في إطار سعيها لتحقيق الغايات المنشودة للعقد الاجتماعي الجديد، وتحمل المواطنين للصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي قد تواجههم لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة على اختلاف أنواعها. في المجمل، لابد وأن تُفضي عملية صياغة العقد الاجتماعي إلى تحديد الأولويات المجتمعية ودور الحكومة من خلال سياساتها المختلفة لتحقيق هذه الغايات. كما تتسع أيضاً لتشمل الأدوار المناطة بالمواطنين الذين يتعين عليهم المشاركة الإيجابية في تحقيق غايات هذا العقد من خلال العديد من الأدوار لعل من أهمها امتثالهم للضرائب المفروضة عليهم لتعزيز قدرة الحكومة على تلبية استحقاقات العقد الاجتماعي.
يقع على عاتق السياسة المالية دوراً كبيراً لتحقيق غايات العقد الاجتماعي الجديد من خلال استخدام أدوات السياسة المالية المختلفة على صعيد جانبي الإيرادات والنفقات لتحقيق المستهدفات التالية:
– تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل أوجه عدم المساواة.
– حماية الوظائف وضمان أسواق عمل لائقة.
– دعم التعافي المستدام.
– تحقيق التماسك الاجتماعي .
– تسريع التحول الرقمي والتحول نحو الحكومات الذكية.
– ضمان الحوكمة والنزاهة والشفافية، كإطار يجمع المواطن بمؤسسات الدولة.
من جانب آخر، أكد الموجز على أهمية تركيز السياسة المالية في إطار العقد الاجتماعي الجديد على المزيد من إشراك القطاع الخاص في تنفيذ مشروعات تحقق الأولويات الاقتصادية والاجتماعية في إطار المسؤولية المجتمعية المناطة بهذا القطاع، إضافة إلى ضرورة تبني المزيد من الإصلاحات الهادفة إلى تحقيق الانضباط المالي والاستدامة المالية كركيزة أساسية لتمكين الحكومات من تلبية طموحات المواطنين بإطار العقد الاجتماعي.