بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
توقفت الغارات الجوية، وعادت الطائرات الحربية الإسرائيلية إلى قواعدها العسكرية، وسكتت فوهات المدافع، ونكست الدبابات مدافعها وسكنت مهاجعها، وتفرقت الحشود العسكرية الضخمة المتاخمة لقطاع غزة، وسُرِّح الجنود الاحتياط الذين تم استدعاؤهم، ومنحت قيادة أركان جيش العدو جنودها وضباطها اجازاتهم النظامية، ولم تعد أجواء الحرب قائمة، ولا قعقعة السلاح مسموعة، بعد أن أنهى جيش العدو عملياته العسكرية الهوجاء ضد المباني والتجمعات، والمساكن والمعامل والشوراع والطرقات، وألحق بها وبالبنية التحتية للقطاع أضراراً كبيرةً، عدا عن مئات الشهداء والجرحى وجلهم من المدنيين، الذين سقطوا جراء القصف الأهوج المجنون، الباحث عبثاً عن هدفٍ عسكري، والمتعطش سراباً لنصرٍ بعيدٍ وحسمٍ مستحيلٍ.
لكن هذه المظاهر الشكلية التي نراها مظاهرٌ زائفة، وتلك الأخبار التي تنقلها وسائل الإعلام الإسرائيلية أخبارٌ كاذبة وصورٌ مخادعة، لا تمت إلى الحقيقة بصلة، ولا تعبر عن الواقع بصدقٍ، ولعلهم يريدون منها توجيه رسائل وحرف الأنظار، وخداع المقاومة وإيهامها بالهدوء ومفاجئتها، فالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة خصوصاً وعلى الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه عموماً لم يتوقف، ولا أراه قد يتوقف إلا بزوال الاحتلال وتفكيك الكيان، فعهدنا به أنه لا يتوقف عن الحرب والعدوان، ولا يكف عن القتل والاعتقال، ولا يجمد المصادرة ولا الاستيطان، وإنما ينتقل من مرحلةٍ إلى أخرى، ويستبدل سلاحاً بآخر وأداةً بأخرى تتناسب والمرحلة وتتفق مع الظرف، أو يؤجل انتظاراً لفرصةٍ أو تحيناً لظرفٍ.
حالة الطوارئ الإسرائيلية لم تنتهِ، وإن تغيرت من الجهوزية العسكرية إلى المباشرة الأمنية، فقوات الاحتلال الإسرائيلي لا تنفك تواصل عملياتها الأمنية في قطاع غزة، وتكثف من جهودها الخاصة، وتفعل خلاياها النائمة والنشطة، وطائراتها المسيرة، الحديثة والمتطورة، لا تتوقف عن الطيران في سماء القطاع على ارتفاعاتٍ مختلفة، وهي طائرات رصدٍ واستطلاع، وطائراتٌ حربيةٌ مقاتلة.
الأولى منها مزودة بكاميراتٍ دقيقةٍ وحساسةٍ، قادرة على التقاط الصور وجمع المعلومات، وتسجيل الأصوات ومعالجة البيانات والتحقق من النتائج، وضبط الأهداف ومراجعة المواقع والاحداثيات، وملاحقة الشخصيات وتحديد مكان وجودهم، حيث أنها ترتبط بحواسيب ضخمة على الأرض، تقوم بتسيرها وتوجيهها، وتمدها بالمعلومات المطلوبة، وتتلقى منها البيانات التي جمعتها، وتلك التي حصلته عليها من قواعدها المنتشرة ومراكزها العاملة على الأرض.
أما الثانية المجهزة للعمليات الخاصة، فهي تستطيع القيام بمهامٍ عسكريةٍ، كأعمال القصف والاغتيال، وتدمير نقاط أمنية محددة، تخشى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من اكتشافها، حيث أنها تستطيع أن تحمل صواريخ دقيقة وقنابل موجهة، يمكن التحكم في مساراتها بدقةٍ عاليةٍ، كما أن بعضها قادر على الطيران على ارتفاعاتٍ منخفضة جداً قريباً من الأهداف المقصودة.
تدرك سلطات الاحتلال الإسرائيلي أن جيشها قد فشل في ضرب المقاومة الفلسطينية، وتفكيك بناها وضرب مقراتها، ولم يتمكن من قصف واستهداف أنفاقها أو جمع سلاحها، وقد استنفذ على مدى أحد عشر يوماً من القصف العنيف والمتوالي، كافة الأهداف التي حددها للقصف، وصنفها ضمن بنك معلوماته أنها مواقع حساسة وخطيرة، ولكن تبين له أنه لم يصب أيٍ منها، وأن ما قصفه ودمره، ليس إلى بيوتاً ومساكن، ومقراتٍ مدنية ومعامل ومصانع وشوارع وطرقات، بينما بقيت الأنفاق على حالها، وحافظت الصواريخ على منصاتها، وظهر بعد انتهاء العمليات الحربية رجالها، وتبين أن خطة استهداف مترو حماس قد باءت بالفشل، ولم تحقق الأهداف المرجوة منها، رغم أن جيشهم قد تدرب عليها كثيراً، وأَمَّل قادته أنفسهم بتدميره كثيراً، ولكن النتيجة كانت عكس ما كانوا يتوقعون، وأسوأ مما كانوا يظنون.
يريد العدو الإسرائيلي أن يعوض خسارته، وأن يرمم صفوف جيشه، وأن يعيد الثقة إلى مستوطنيه، فقد كوت المقاومة وعيه، وألحقت به هزيمةً جديدةً، وأصابته فضيحة منكرةٌ، قد تكون هذه المرة أوضح من سابقاتها، وأكثر عمقاً وأشد أثراً من مثيلاتها، لهذا فهو يتطلع إلى مواصلة عملياته ضد المقاومة الفلسطينية لكن من الجانب الأمني، الذي يرى نفسه فيه قوياً ومتفوقاً، وقادراً على تحقيق الكثير من المكاسب، وتسجيل العديد من نقاط الفوز، وذلك بالنظر إلى إمكانياته وقدراته، وأدواته الحديثة ووسائله المتطورة، فضلاً عن أنه لا يتكلف فيها بشرياً، ولا يعرض حياة جنوده للخطر، كونها تدار اليكترونياً من مراكز الإدارة والتحكم.
والعدو لا يخفي أهدافه ولا ينكر محاولاته، ولا يتردد في التخطيط لها وتنفيذها، ولهذا فإن على الشعب الفلسطيني ومقاومته أن يدركوا المرامي الإسرائيلية، وأن يحتاطوا من محاولاتهم الخبيثة المستمرة، فلا يعطونه الفرصة ليعوض بعضاً مما فاته، ولا يغفلون عن أسلحتهم قليلاً فيميل عليهم ميلةً واحدة، وحتى يصدوه ويفشلوه فإن عليهم أن يحصنوا أنفسهم ومقاومتهم، وأن يحموا صفوفهم ومجتمعهم، وألا يفقدوا أمنياً ما حققوه عسكرياً في الحرب والميدان، فالعدو لن يتركهم في حالهم، ولن يتخلى عن محاولة اختراقهم، رغم أن هاجس عملية “حد السيف” الفاشلة في خانيونس تلاحقه وتطارده، ويخشى أن يمنى بهزيمةٍ مثلها، أو تصيبه فضيحة أسوأ منها.