فهد بن حسين السميح
إذا كانت النفس فى حاجة إلى مايهذبها ويعيد إليها صفائها ويسمو بها فوق كل الصفات السيئة ، فهى فى حاجة أشد إلى ذلك خاصة خلال هذه الأيام ، ولايخفى علينا جميعا مايمر به العالم من صراع وأنانية وتكالب على المادة وغلبة المصالح والأهواء، ورغم أن تراثنا العربي يزخر بالعديد من القصص التى تعلى من قيم الوفاء والمروءة والصفات النبيلة إلا أنها حبيسة الأدراج ، ونادرا ماتجد طريقها إلى الناس وخاصة بين شبابنا وفتياتنا
ومن هذه الصفات النبيلة التى يجب أن يتحلى بها كل مسلم .. الوفاء : وهو من شيم الكرام و دليل المروءة والفتوة والعزة ، وهو علامة الإخلاص والعطاء وحفظ العهد، بعيدا عن الخيانة والغدر، وهو يقرب الناس إليك فيحبونك ويقدرونك، وكان له عند العرب قيمة عظيمة قدرها عرب الجاهلية، وكان من أقوالهم: “الوفاء أخو الصدق والعدل، والغدر أخو الكذب والفجور”. وكانوا يرون الغدر لؤما وخسة، والوفاء مدحة ورفعة.
وقد كانت العرب تضرب بالسموأل المثل في الوفاء؛ وذلك لقصته المشهورة في أدراع امرؤ القيس بن حجر الكندي الشاعر المعروف.
والسموأل هو: السموأل بن غريض بن عادياء الأزدي. شاعر جاهلي حكيم. من سكان خيبر (في شمالي المدينة) كان يتنقل بينها وبين حصن له سماه “الأبلق”. كان شاعراً مجيداً، عده ابن سلاّم الجمحي من فحول الشعراء، وله أشعار في الفخر والغزل ومكارم الأخلاق، وتدل قصيدته اللامية «إذا المرء لم يَدنَسْ من اللؤم عرضُه.. فكل ثياب يرتديه جميل»، على ما يتحلى به من وفاء وشهامة يقول في أبيات:
إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُه .. .. فَــكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَمــيلُ
وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها .. فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ
تُــعَــيِّـرُنا أَنّــا قَــلــيلٌ عَـديــدُنــا .. .. فَـقُــلـتُ لَـهــا إِنَّ الكِــرامَ قَـلـيلُ
وَما قَــلَّ مَن كانَت بَقــايــاهُ مـِثـلَـنا .. .. شَبابٌ تَســامى لِلعُلى وَكُهولُ
وَمــا ضَــرَّنا أَنّــا قَـلـيـلٌ وَجـارُنا .. .. عَــزيزٌ وَجـارُ الأَكثَرينَ ذَليلُ
وقصة السموأل في الوفاء مشهورة في كتب الأخبار وتاريخ الأدب، وخلدها الشعراء في شعرهم كالأعشى وغيره.
وملخص القصة “أن امرؤ القيس عندما قُتل أبوه حجر ملك كندة طلب ثأره، وعزم على الرحيل إلى هرقل ملك الروم لكي يعطِيه جيشاً يحارب به قاتلي أبيه، حتى يثأر منهم، أودع عند السموأل دروع أجداده التي اعتاد ملوك كندة توارثها أباً عن جد، وهي ترمز إلى ملكهم، وكان السموأل يملك حصناً منيعاً يسمى «الأبلق» في تيماء من شمال الجزيرة العربية، وسار امرؤ القيس إلى هرقل في رحلته الشهيرة التي خلدها في قصيدته الرائية المشهورة «سما لك شوق بعد ما كان أقصرا»، ومات في تلك الرحلة.
ولما علم ملك الحيرة الحارث بن شمّر الغساني بتلك الدروع، رآها غنيمة وتمنى الظفر بها، ولما جاءه خبر موت امرؤ القيس، عزم أن يستولي على تلك العدة، فسار بجيشه إلى ديار السموأل الذي لجأ إلى حصنه فأغلقه عليه، وأمسك الحارث الغساني بأحد أولاد السموأل حين كان خارج الحصن ـ قيل كان في الصيدـ، وأرسل الغسّاني إلى السموأل يخيّره بين أن يدفع إليه أمانة امرئ القيس أو أن يقتل ابنه، وأمر أن يربط ابن السموأل بمكان، بحيث يرى من شرفة الحصن، فأشرف السموأل فرأى ابنه، فقال له أحد أقاربه: يا سموأل لقد حفظت أمانتك قدر المستطاع، وامرؤ القيس قد مات، وهذا الملك لا طاقة لك به، وهو آخذها لا محالة، فادفع له ما يريد وخلّص ابنك. فأطرق السموأل ملياً ثم قال له: ورب السماء لن أخون ذمتي، ولن أجعل العرب تعيّرني بقلة وفائي، ورد على الملك بأنه لن يسلمه أمانته، وليفعل ما يشاء، فذبح الملك الولد تحت عينيه.
لبث الحارث بعد ذلك وقتاً يحاصر الحصن حتى يئس فانصرف بجيشه، وظل السموأل محتفظاً بوديعته حتى جاءه ورثة امرئ القيس فدفعها إليهم، ومن أجل ذلك ضرب به المثل، فأصبح يقال لكل من يظهر وفاء خارقاً إنه «أوفى من السموأل»، وتنسب إلى السموأل أبيات يشير فيها إلى هذه الحادثة، منها: وفيت بأدرع الكندي، إني .. .. إذا ما خان أقوام وفيت.