بقلم:
إبراهيم العسكري
في عصور مضت كانت الحياة مضنية وماخفي أعظم فكم سمعنا بجزئيات عن معاناة أهل حقب سبقونا رحمهم الله وجعل الجنان مثواهم فقد كابدوا من أجل البقاء ولم تثنهم كل الحواجز المعاكسة من استمرار الحياة وفق المعطيات المتاحة لهم.
أنقل لكم هنا قصة امرأة عظيمة حدثت تفاصيلها قبل أكثر من نصف قرن فقالت:
حينما كنت طفلة وكان والدي رحمه الله شيخا لقبيلته وله بيتان في تهامة والسراة ، وكل بيت يقع على طريق سفر المرتحلين صعودآ للسراة أو نزولآ لسهول تهامة فلا ينقطع عن البيتين من المارين للتزود على الأقل بالماء وماتيسر من القوت ،وكنا نجهز كل مافي وسعنا لإكرام الضيف أو عابر السبيل بما تيسر..!
عندما كبرت تقدم لنا صديق أبي وهو مقرب لوالدي وسبق أن سمى ابنه الكبير باسم والدي طالبآ الزواج لابنه المسي مني.
اتفق الشيخان أبي وأب زوجي رحمهما الله أجمعين..
وتزوجت ذلك الرجل الشهم الكريم رحمه الله وأنجبنا بكرنا الأول الذي توفي ولم يكمل شهره الأول ،وكان الحزن مخيما على الزوجين وكم تغلب الدنيا وتقسو في مآسيها لولا لطف الله ثم فسحة الأمل..!!
تضيف محدثتي فتقول أتى فرج الله وحملت بآخر وجاء ابننا الثاني ولا ننسى تلك السعادة والسرور بمقدمه..!
في الشهر السادس لطفلنا الوحيد بدأ يتألم ويبكي ولا نعلم ماذا حل به والإمكانيات العلاجية بدائية وشعبية ، وبدأنا نرى ضمورا في إحدى رجليه فلم نترك أي توقع للعلاج أوخبير في البلاد إلا ومررنا بابننا عليه وكان آخرها الكي من الفخذ حتى أخمس القدم ولكم التخيل بطفل بهذا السن أن يتحمل وأمه ما يقع من الأثر والحروق العميقه التي زادت الألم ألمآ ودمآ..!
تقول قريتنا تبعد عن أبها قرابة ثلاثين كم ولايوجد حينها بقرانا سيارات ولا طرق معبدة فذهبنا بابننا مشيآ على الأقدام نصف الطريق حتى وجدنا سيارة حملتنا في الجزء المتبقي وسكنا عند أحد أقارب زوجي لمدة أسبوع ولا أنسى فضل أهل ذلك البيت من طيب الشيم والكرم والأصالة وبقينا نراجع مستشفى أبها العام والإمكانيات الطبيه محدودة جدا فلم نزد إلا تعباً وعناءً..!!
حجز لنا زوجي قمرة عربة كبيرة وهي كبينة السائق نحن وطفلنا أما صندوق الشاحنة ففيه قرابة عشرة أو أكثر من الركاب واتجهنا إلى الطائف وبقينا في الطريق ثلاثة أيام بلياليها ولا أنسى ذلك التعب والعناء والسيل الذي قطعناه بالقرب من بيشه حينما كادت سيارتنا تنجرف فيه بمن فيها لولا لطف الله الذي حمانا بفضله..!
تقول لم أعد آكل شيئآ خوفآ علينا وعلى طفلي لأن الطريق وعر ومخيف وخالي من السكان ولم نعتاد على هذا وأنا المرأة الوحيده في تلك الرحلة المضنية..!
ثم تضيف في اليوم الثاني وبعد بيشه بمسافة بعيده بدأ طفلنا يتضرع من الجوع وحاولت إرضاعه ولكن لايوجد قطرة لبن لأني لم أعد آكل ابدآ تلافيآ لعدم وجود حمامات أو الاستطاعة لخروج البر مع العلم أن زوجي يحمل سلاحآ.
وليس لنا جرأة في إيقاف السائق علمآ أنه من بني جلدتنا.!!
تضيف عذبة اللبن بقولها بدأ الإعياء واضحآ على طفلي فلا يوجد بديل لإرضاعه ولا حليب وبدأ صوته يختفي من البكاء والجوع وبدأ الخوف يسيطر علينا أن يموت في أحضاننا فليس لنا حول ولا قوة إلا بالله ولا نستطيع إلا تقطير الماء بين شفتيه..!!
لاحظ ذلك السائق الشهم معاناتنا وبدأ يقول استعينوا بالله ووحدوه واصبروا لعل الله يحدث خيرآ فأنا أخبر بدوآ رحلا على مسافة ساعتين من الآن لعلهم يساعدوننا في الأمر..!!
تقول الأم بدأ يختفي صوت الطفل لدرجة أنا نقربه منا لنعلم هل لازال القلب ينبض أم لا ولم أستطع مقاومة الأمر فبكيت لطفلي الذي أراه مودعآ..!!
فجأة صاح السائق الذي كان متعاطفآ معنا ثم قال:
أبشروا هناك بدوآ رحلآ وغنما يراهم من مسافة بعيده ، ونحن لا نرى شيئآ وقلنا لعله يحاول تجديد الأمل بالوالدين المكلومين..!!
بعد فترة صٓـدٓقت رؤيا ذلك السائق فقد اقتربنا من البدو وعلى الفور سألهم أن لدينا طفل رضيع يحتاج لبن فتعاطفوا معنا على الفور وحلبوا من تلك الشاة كاسة ثم اعطينا طفلنا بفنجان قهوه وشرب الأول والثاني حتى تصبب العرق منه وبدأت العروق بأمر الله تنبض في طفلنا وسررنا وشكرنا أهل الفضل بعد الله السائق والبدو ثم اشترى منهم السائق ذبيحة وطبخوها للحضور بهذه المناسبة العظيمة ثم أخذنا معنا بعض حليب الشاة الأم الثانية لطفلنا لبقية الطريق..!!
وصلنا الطائف عند اخوان زوجي بطفلنا وكأن الله منحنا حياة جديدة وله الحمد من قبل ومن بعد.
راجعنا الطائف ثم حُولنا بطفلنا لجده واستقر الأمر أن ابننا أصيب بشلل في رجله وسيبقى حتى يلقى الله.
صاحبة القصة هي بكل شرف أمي الغاليه(تركية بنت أحمد محمد العسكري) والطفل هو محدثكم فلا زلت طفلآ في حضرة أمي الغالية.
دمتم بود.