سارة طالب السهيل
للحضارات شواهدها الخالدة التي لا تفنى بتعاقب الدهور عليها ، ومنها شواهد اثرية موغلة في القدم للحلي والمجوهرات التي عثرت عليها البعثات الاثرية في مقابر بلاد ما بين النهرين مهدا للحضارة الانسانية .
وكشفت هذه الاثار عن ابتكار العراقيين لفن صياغة الحلي والمجوهرات النفيسة خلال حضارتهم السومرية والبابلية وواصل المندائيون العراقيون جهودهم في نقل هذه الصناعة للاجيال على مر العصور وصولا لعصرنا الحالي .
فحلي بلاد ما بين النهرين الذهبية والفضية جرى تطعيمها بالنفائس والتي تعكس ثقافتهم وذوقهم الفني وأضفوا عليها رموزا وعناصر جمالية ودينية لتضيف اليها سمات قدسية وجمالية خاصة .
وقد تعددت المهن التي تنتج التحف الفنية من الحلي والمجوهرات في العراق القديم ، ما بين صبابو المعادن وشاغلو الأحجار الكريمة وشاغلو المعادن وصاغة الفضة والذهب وصانعو المجوهرات .
تجلت مهارة الصائغ العراقي في دقة صناعة الحلي في لحم الأشكال و الزخارف بمهارة يدوية، والابداع في اختيار نوع الزخرفة والتصميم، والتي تتنوع أشكالها مثل التطريش، والترميل، الكتابة والخط، وتلوين الذهب، استخدام الأحجار الكريمة المختلفة مع الذهب والفضة في عملية التطعيم اليدوي.
وكشفت الحلي التي عثر عليها في عمليات التنقيب عن هوية المجتمع العراقي القديم وانماط حياته الاقتصادية وشغفه بالزينة للجمال والادخار ، وشيوع اقتناء الحلي والمجوهرات بين طبقات المجتمع كله ملوك وامراء وتجار اثرياء وعامة الشعب، فكان الرجال والنساء يثقبون آذانهم بالأقراط ويتقلدون القلائد في أعناقهم ويزينون معاصمهم بالأساور و أصابعهم بالخواتم.
وكما كان السومريون من أوائل من شيدوا الحضارات بالعالم ، فانهم ايضا من اوائل من أبدعوا في صياغة الذهب والترصيع بالأحجار الكريمة وعمارة القرميد العادي والمشوي وإنشاء الصروح وإستعمال الذهب والفضة في تقويم السلع.
برزت قدرة السومريين في صناعة المجوهرات، وسبائك الذهب والفضة، بفعل مهارات عمالهم وحرفيتهم العالية في صناعة المشغولات الذهبية والفضية .
وكان السومريون أول من استخدم بعضا لتقنيات في صناعة المجوهرات، مثل التحبيب والتخريم.
وبرعوا في تكنيك مزيج الألوان في جميع مجوهراتهم مما أضفى عليها ابداعا فنيا خاصا بهم .
وتميزت السومريات، بمجوهرات خاصة متنوعة ، منها قطعة مجوهرات تغطي كل جزء من أجسادهن.
وكنّ يرتدين أغطية رأس ذهبية مصنوعة من رقائق ذهبية، وكانت عادةً ما تحتوي على أوراق شجر ذهبية مزينة بحبات من اللازورد والعقيق. وكانت أغطية الرأس تأتي في العادة بتصاميم مختلفة مستوحاة من أوراق الشجر والزهور.
وفي العصر البابلي كانت النساء تتحلى بقلادة عريضة جدا ومحبكة حول العنق.
ورغم أن المجوهرات كانت توضع ضمن الحاجات الجنائزية التي ترافق المتوفى، فإن كافة العراقيين رجالا ونساء في بلاد الرافدين كانوا يرتدون كافة الحلي مثل القلائد الطقسية التي تلبس في الرقبة ، والصل الذي يلبس على الرأس للحماية والعصائب والخواتم والأساور في المعاصم والخلاخيل والعقود والأخراز الثمينة والأحزمة المحلاة بالأحجار أو باللآلئ والمينا وغيرها .
واستخدمت العديد من المواد في صناعة المجوهرات مثل أحجار اللازورد الازرق، والعقيق الأحمر، وزجاج على شكل ماس، والذهب، والصدف، والفضة، واليشب، والكريستال الصخري، والحجر الجيري،والعقيق اليماني، وتكون تلك الأحجار النفيسة على شكل بيضوي، أو رباعي الاضلاع، أو خرز دائرية، أو أسطوانية الشكل، او مستطيلة .
بلغت صناعة الحلي والمجوهرات بالعراق في العصر العباسي ذروة تألقها تواكبا مع شدة البلاد من ثراء وترف وانفتاح بفعل الفتوحات الاسلامية ، وشيوع فنون الصياغة التخريمية والحفر، والترصيع.
وتزينت المرأة في ذلك العصر بأنواع متعددة من الحلي منها زينة الرأس والشعر وارتداء التيجان كحلي للرأس أما العصائب للجبين، والقلائد والاطواق زينة العنق ، وكانت صياغة المعادن والمجوهرات في ذلك العصر حكراً على الصابئة واليهود وبقيت في حوزتهم الى ما بعد الحرب العالميةالثانية.
وتركزت مهنة الصياغة في بغداد وكربلاء والموصل والنجف والعمارة والبصرة.
في بغداد كان يطلق على سوق الصاغة باسم (خان جغان) وقد إنتشرت فيها محلات الصاغة للذهب والفضة حيث إنحصرت هذه الصناعة آنذاك بالصابئة واليهود وعدد قليل من المسلمين والمسيحيين .
والنساء البغداديات من الطبقة الوسطى كن يتزينَّ بالأساور والخلاخل ودلايات من الذهب والفضة، أما الاغنياء منهم فكنّ يتزين بالذهب والألماس والمعادن النفيسة والأحجار الكريمة، تتشابه مصوغات نساء البادية ونساء الريف من الذهب والفضة والأساور والحجل، عند البدو أن جميع هذه الحلي تنتهي أطرافها بأجراس أو قطع نقدية تاريخية وتصنع في العادة من الفضة المزخرفة .
وانتشر لبس الأسنان المصنوعة من الذهب،كزينة في مدن العراق، وتتفاخر النساء بأسنانهن الذهبية اللماعة وخاصة في الريف، وبينما نوع الرجال بين الأسنان الذهبية والفضية ، غير ان الغجر اشتهروا بصناعة الأسنان الذهبية والفضية
وتركيبها للناس في البيوت .
شهرة المندائيين في الفضة
اكتسبت صناعة الفضة في العراق القديم شهرة واسعة بسبب المندائيين، وكانت الفضة تدعى كسبا مقابل دهبا أي الذهب باللغة المندائية الأرامية القديمة ، وهي المعادن التي كانت إحدى أعمدة اقتصاد العراق القديم ، وسجل التراث الشعبي الجمعي العراقي هذه القيمة في هذا الأثر : “الذهب والفضة زينة وخزينة “.
وأبدع المندائيون تحفا فنية رائعة من هذه المعادن بفضل موهبتهم المتوارثة في الصياغة والتشكيل ، والتي يتهافت عليها هواة جمع التحف الفنية من دول العالم .
وتميزت الحلي العراقية المندائية بالتطعيم بالمينا السوداء ، ورسم المناظر الطبيعية أو أجزاء منها كالنخيل والسفن الشراعية والزوارق والجمال والصحراء وعكس تزيين الجوامع والآثار القديمة كإيوان كسرى وأسد بابل ،براعة الصائغ المندائي في ابتكار الاوان وتداخلاتها خاصة اللونين الفضي والاسود .
وكل من يحظى بزيارة المراقد المقدسة في العراق ويشهد عظمة وبراعة وجمال قبابها وأبوابها وجردان مراقدها يجد أنها أبدعت بتوقيع المندائيين العباقرة .
حافظ هذا الفن المندائي على أصالته وعراقته وتطوره وصولا لعصره الذهبي بالعراق على أيدي الصاغة المندائيين في الفترة مابين الحربين الأولى والثانية فأبدعوا في تطعيم الفضة بالمينا السوداء واشتهر بينهم الصائغ زهرون ملا خضر ونفر من عائلته مثل الصائغ المشهور حسني زهرون الذي أبدع في رسم صور البورتريت للأشخاص، كما برع آخرون في هذا المجال منهم عباس عمارة والشيخ عنيسي الفياض، الصائغ الخاص للملك فيصل الأول.. وغيرهم.
ولا غرابة إذن أن يتصدر المندائيون المشهد في ابتكار وتصميم هدايا الدولة العراقية التي تقدم لملوك ورؤساء الدول .
كانت حقبة سبعينيات القرن الماضي فترة من أزهي صناعة الذهب بالعراق على ايدي الصاغة من اليهود والصابئة والمسيحين والمسلمين من العرب والكرد والتركمان وغيرهم ، الذين ابدعوا في تطعيم الفضة بالمينا السوداء، في ابتكار التصاميم الجذابة.
واشتهرت مدينة النجف العراقية بالذهب الأحمر الفريد، الممزوج بالفحم المحترق لإضفاء ظلال على المجوهرات ،غير ان الحرفيين والعاملين فى الحقل واجهوا فيما بعد صعوبات كبيرة بسبب الحروب والركود الاقتصادى الذي أثر سلبا على مخرجات صناعتهم الرائعة.
إحياء الفن
ومع هذا التاريخ الحافل بصناعة الحلي بالعراق وتميزه في الماضي والحاضر عن الشعوب الأخرى، فان هذا الفن يواجه خطر الضياع بعد الحروب التي واجهها العراق وازمات داعش وغيرها اضطر معه الكثير من المندائيين للهجرة خوفا على حياتهم بينما اهملت الدولة العراقية هذه الصناعة ولم تكترث لضرورة انشاء مدارس واكاديميات في الفنون الجملية لتعلم فنون صناعة الحلي
ودعوتي للحكومة العراقية ورجال الاعمال والمجتمع المدني بالاسراع لانشاء مدراس ومعاهد متخصصة للحلي والمجوهرات للحفاظ على تراثنا العريق من الاندثار.
شارع النهر
حدثتني والدتي كثيرا عن شارع النهر الذي كان في حينها من أجمل شوارع بغداد و أكثرها بهجة كونه كان شارع العرائس حيث كانوا يشترون منه نيشان العروس أو شبكتها و معظم مستلزماتها ، وقد كان في هذا الشارع أكبر صاغة بغداد من أهم الأسماء التي اشتهرت في ذلك الوقت مثل محل خليل مال الله و زهرون وفرحان الخميسي وحرج مدلول وخالد مال الله والسهيري
وقد كان خليل مال الله من أشهر الصاغة العراقيين في الماضي القريب حيث كانت معظم هدايا الدولة العراقية هو من يقوم بتصميمها.
وقد كانت والدتي و معظم النساء يتجمعن في متجره.
و قالت لي والدتي أن النساء كن يتجولن في هذا الشارع حتى تحت قيظ الشمس المستعرة في صيف بغداد
و يعد أيضا سوق الذهب في الكاظمية أيضا من الشوارع القديمة المعروفة ببيع الذهب و المجوهرات ومن الأماكن التي يقصدها السياح و الزوار للحصول على التصاميم المميزة بنكهة شرقية عراقية كالحلق (الأقراط) الذهبية المشغولة بأحجار الفيروز و المرصعة بالأحجار الكريمة
و تشتهر أيضا مدينة الموصل بمشغولاتها الذهبية الراقية مثل الحجول و الأحزمة الذهبية التراثية
ومن حسن الحظ أني صادفت الكثير من الفنانين العراقيين في مجال المجوهرات في عمان مثل محلات خالد خليل مال الله و مجوهرات الورد وبشار الطائي ومجوهرات بغداد في شارع واحد و كأنهم يحاولون جمع ذكرياتهم بعد هجرتهم بسبب الظروف التي مرت على العراق.
و لا أنكر أبدا أني من محبي التاريخ و التراث و بالتالي كل ما يتعلق بالقديم من ملابس و حلي و مجوهرات و أشعر بأنني أميل لتصميم الحلي القديم ، ومن هنا جاء شغفي بالتجوال بين هذه المحلات لأراقب التصاميم القديمة فأشتم عبق التاريخ و العظمة التي كانت عليها بلادنا
استخدام المصوغات رجالا و نساء في العراق قديما وحديثا ، وكيف كان تعاملات النساء مع المعدن الذهبي اللامع و الأحجار الكريمة الثمينة
ومن دراستي لعلم النفس وبعض دارسات علم الاجتماع استطعت ان ابحر بعيدا لربط المجوهرات بدراسة علم الشعوب ،تاريخهم و ثقافتهم و حضارتهم و حياتهم اليومية والاجتماعية و الفن القديم والألوان و الزخارف وتأثرها بالانطباع الإنساني بما يعيش فيه و ما يدور حوله وكيف يمكن ان تعطيك المجوهرات في حقبة زمنية وبقعة جغرافية مدلولات عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية انذاك فأنا أفكر جديا بعمل دراسة جادة في المستقبل القريب اكثر عمقا عن معرفة الشعوب من خلال مصوغاتهم و ان اردنا التوسع نضيف وأزيائهم
فالمجوهرات لها دور كبير في حياة الناس منذ العصور القديمة، حيث كانت تستخدم للتعبير عن الثقافة والتقاليد والاجتماع والفن.
تعتبر المجوهرات في بعض الثقافات رمزًا للثراء والقوة والسلطة، في حين تعتبر في ثقافات أخرى رمزًا للحب والعواطف و تقرن في وقت الميلاد و تأثيرها على المزاج والحظ والطالع والأبراج .اضافة للجمالية الفنية بالتصاميم التي تضفي جمالا و رونقا و جاذبية لمرتديها
وهي من اشهر الهدايا على مر العصور فدائما ما يفضل الرجل اهداء زوجته و حبيبته الحلي والمجوهرات و طالما كانت المجوهرات جزء من الروايات والقصص و الادب القديم و الحديث
أما من الناحية الاقتصادية، تعتبر صناعة المجوهرات قطاعًا مهمًا من قطاعات الدولة ، فهي تحرك الاقتصاد والمال وتوفر فرص عمل للكثير من الناس وتسهم في النمو الاقتصادي ولتوسيع الصناعات اليدوية والحرفية .
في العصور القديمة كما الحديثة، كانت المجوهرات تعتبر رمزًا للثراء والاهتمام بالجمال، وقد كانت تُستخدم في الزينة الشخصية وأحيانًا كسب الاحترام والمكانة الاجتماعية. كما كانت المجوهرات تعكس التراث والثقافة المحلية، وتعبر عن تقاليد الزواج والاحتفالات والمناسبات الخاصة. و ذلك في العراق وعلى مر التاريخ و الأزمان.
اختيار المرأة العراقية لتصاميم المجوهرات يعكس ذوقها الرفيع وثقافتها العميقة. والأصالة والتاريخ العريق للبلاد، بينما تتميز المجوهرات العراقية بأنها غالبا ما تحمل رموزاً وزخارفاً تعكس الثقافة والتقاليد المحلية.
يمكن أحيانًا التعرف على شخصية المرأة من خلال اختيارها للمجوهرات التي ترتديها ويظهر شخصيتها مثلا ارتداء مجوهرات بسيطة قد توحي بأن المرأة تفضل الأسلوب البسيط في مظهرها وحياتها ، أما اختيار القطع الدقيقة والمتقنة يمكن أن يدل على اهتمام المرأة بالتفاصيل ورعايتها للأشياء التي ترتديها.
اما ارتداء مجوهرات فريدة ومبتكرة قد يكون مؤشرًا على الشخصية الإبداعية والمخيلة الواسعة والفنية فتجد الكاتب و المؤلف و الرسام يرتدي مجوهرات مزخرفة و بألوان زاهية و طراز قد يراه الشخص العادي مبالغ فيه و يراه الفنان قطعة فنية متعوب عليها تعبر عن إبداع صانعها وإبداع مقتنيها.
هذه بعض الأمثلة على الأحجار الكريمة التي كانت تستخدم في بلاد الرافدين، وكانت تحمل معانٍ دينية وثقافية مهمة للشعوب القديمة في تلك المنطقة.
فالعراق كانّ عراق و بغداد كانت بيت الدلال للعالم ، من كان يبدو عليه الترف يقال له (يتبغدد)
إنه العراق الغني بالأموال والذهب غناء قديم ضارب بالتاريخ مشبع لأهله شبع قديم سيعيش معه إلى يوم القيامة (قديم النعمة لا يفقر أبدا فبداخله يحمل خير قديم و كرم عظيم)
على أرض الواقع:
كانت سعادتي لا توصف و انا أتجول في متاحف لندن و أرى تاريخ العراق القديم يتعجب له القاصي و الداني وفرحت كثيرا حين التقطت عدة صور مع آثار اجدادي وخاصة مع حلي جدتي أو بالأحرى غطاء رأس على شكل تاج الملكة بوابي المعروفة بالملكة شبعاد . السومرية، 2600 قبل الميلاد. وحين تمعنت به عرفت من أين أتيت بذوقي في اختيار ما ارتديه فقد ورثت ذوق جداتنا السومريات.
يا له من تاج غريب و مميز فله زخرفة رأس فضية مرصعة بالذهب واللازورد والأصداف والحجر الجيري الأحمر. و اكثر ما أعجبني زهرة البابونج التي لها وجود في الحضارة السومرية فقد ظهرت بالعديد من الاشكال والرسومات مثل سوار الملوك المزين بزهرة البابونج فهي زهرة على ما يبدو مقدسة في حضارة بلاد الرافدين و ترمز إلى الصفاء والنصر و قد رسمت ايضا على بوابة عشتار
ومن هنا أطالب بإعادة هذا الرمز و زخرفته في أنحاء العراق كونه جالب للحظ على ما يبدو (قراءة لأحوال العراق في ذلك الزمن) (مقارنة بالآن) (ربما يعود الحظ مجددا)
و إن أطلت عليكم الحديث فما هو إلا نقطة في بحر مما يحمل هذا الموضوع في طياته من أسرار الشعوب التي مرت على هذه الارض الكريمة
مباركة أنت يا زهرة البابونج الذهبية يا عراق الذهب