بقلم اللواء / عبدالحميد عطيف .
-النصُّ الشعري:
هَمْسَةٌ عَلَى قَارِعَة الْحُزْن
أنا لمْ أغِبْ عن ْ جَفْوةٍ ،
لكنًني حَاولْتُ أهْرُبُ منْ هَواكْ
أخْشَى عَليكَ منْ الهوى،
ولَهِيبهِ ..
أخْشَى عَليكْ.
غَادَرْتُ مكْسُورَ الفؤادِ مُمَزّقاً …
أجْتَرُّ حُزْني ..
كُلُّ أشْواقي مُسَافِرةُ إليكْ
إلّا أَنا ..
لادرْبَ ليْ
مسْدودَةٌ طُرُقي،
تُحَاصِرُني الصّحَارى والْجِبالُ
ويَثُورُ في نَفْسي السّؤال ْ
متى أَرَاكْ ؟؟ولنْ أَرَاكْ!!!
لَمْ أَدْر ِ طَعْمَ الْحُبِّ
ما ألْوانُه ُ ونَعِيمُهُ
حتَّى تَمَلّكَني هَواكْ
فَنَمَتْ عّلى لُغَتي الْورُودُ .
ورَأيتُ رُوحَكَ كالْفَراشِ
تَرِف ُّمِنْ حَولي
وتَمْنَحُني الضِّياءْ
ورَأيتُ بدْراً في السَّماءْ
يَغَارُ منْكَ إذا ابْتَسَمْتَ
ومِنْ بَهَاكْ
لَكِنًهُ قَدَرِي
تَمُوتُ الأُمْنِياتُ عَلَى يَدي
وتَطِيرُ مِنْ شَجَري
عَصَافِيرُ الْجَمَالِ
أَرَى مَغَاني الرًّوضِ تّقْطِفُ
زَهْرَها الْغِرْبانُ
بِئْسَ الطّيرُ تَسْرقُ
منْ جَنَاكْ .
______________
«التحليل النقدي»:-
إننا عند كتابة الشعر نكتب كما نتكلم أو ما نتكلّم به.
وذلك لأن الكلام يأتي منتظماً موزوناً ومقفىً، ويحمل في ثناياه نظامه الداخلي، وشكله الخارجي، وإيقاعاته السابقة والمصاحبة واللاحقة،
في منظومة متكاملة، تشترك فيها مختلف أدواتها الفنيّة والبديعيّة واللفظيّة والمعرفيّة.
بينما عند كتابتنا للقصة فإننا نتكلم كما نكتب، فأسلوب القصة ولغتها ومضمونها يأتي أولاً ضمن مخطط يتحكم في لغة الكاتب وقلمه … ويستطيع الكاتب أن يضع تصوراً مسبقاً لعناصر القصة ومجرياتها وأهدافها، ثم يسير وفق المخطط مع توفر الإمكانية لديه للإضافة والحذف والتقديم والتأخير ويمكنه -أيضاً- التعبير عن العوامل المحيطة بالقصة، وعن انفعالاته الوجدانية قبل وأثناء كتابة القصة.
وهذه الرفاهية في التأليف ليست متوفرةً للشاعر.
ولهذا فإن الشاعر ضمن المساحة المتاحة لانهماره الوجداني،
لا يستطيع الإبانة شعراً عما يحيط بالنص ،وهو أيضاً لا يمكنه أن يقدّم شروحات شعرية، أو نثرية لتجربته الحياتيّة المولّدة للنص.
ولمّا كان الشعر ديوان العرب، ومسؤولاً عن تدوين وتوثيق تاريخهم وعلومهم وإبداعهم، كان لابد أن يكون قادراً على استيعاب فن السرد والرواية ضمن جمالياته التعبيريّة.
والشعر في أصله إنما هو تطورٌ في الكلام الشفهي، برع فيه العرب وكيّفوه ليناسب طبيعة حياتهم، فكان مستودع أيامهم وقصصهم، ولهذا فإن النصَّ الشعري الجيّد هو ذاك الذي لا يلامس وجدان القارئ وذائقته الشعريّة فحسب ، ولكنه -أيضاً- بما في داخله من سردٍ جمالي يضع القارئ تحت سيطرته الوجدانية والعقلية بأحماله القصصيّة، ويدفع به في مسار التأمّل والتصور لأبعاد النص الداخليّة والخارجيّة، وتخيّل تجربة الشاعر، وقصة النص، أو بمعنى آخر : القصّة الحياتيّة التي أنتجت النص …
هذه السيطرة أجدها متجسدةً في نص الشاعر النعمي ( همسة على قارعة الحزن ) فالنص لا يتوقف فنّا وبديعاً ، لغةً وبلاغةً عند حد قوة التأثير على عاطفة القارئ ووجدانه، بل يتجاوز ذلك إلى الأخذ بتلابيب عقله، وقيادة ناصيته، نحو تخيل ما قبل وما بعد النص، ليحكي لنا قصةً نسجها القدر ذاتيّاً وموضوعيّاً، وأجراها خبراً وأسالها على لسان الشاعر بلا تكلّف، كينبوعٍ يتدفق هامساً في مدقّات الحَزن، بالشعر الرقراق، والتعبير السهل الممتنع، والجمال المتفرّد ،والشجى المكبوح الزاخر بالألم المكين، والحُزن العميق.
حين قرأت القصيدة لأول مرة تداعتْ إلى خاطري رواية( العقل والعاطفة ) التي صدرت في عام 1811 للأديبة البريطانية (جين أوستن ) بمافيها من صراع بين العقل والعاطفة ،وحجم الآلام والأحزان والمعاناة الناتجة عن التضحية بالرغبات والأمنيات الذاتية، في سبيل الآخرين الذين نحبهم
أنا لمْ أغِبْ عن ْ جَفْوةٍ ،
لكنًني حَاولْتُ أهْرُبُ منْ هَواكْ
أخْشَى عَليكَ منْ الهوى،
ولَهِيبهِ ..
أخْشَى عَليكْ.
جاء العنوان ( همسة على قارعة الحزن ) الذي اختاره الشاعر من خارج مفردات النص ليؤكد حضور العوامل الموضوعية في النص ،وسيطرة العقل على مجريات السرد الشعري المعبر عن التجربة الذاتيّة، وهذا يفتح الباب على تعدد عناصر النص، وتنوع دلالات ألفاظه وعباراته.
فالنص ليس تفريغاً هادئاً لعاصفة حزن وجدانيّة فوّارة وحسب، ولكنه -أيضاً- بمثابة سرد توثيقي لقرار عقلي، واختيار إرادي واعٍ ، في سياق يتنازعان ويتشاركان فيه المنطق والوجدان والذات والموضوع على حد سواء ، هذا القرار يتسم بنكران الذات، والتضحية بالرغبات الشخصية، واختيار تحمّل المعاناة والألم والحزن، من أجل سعادة المحبوب ،وتجنيبه مخاطر تلك العلاقة العاطفيّة، وذلك المصير المؤلم المتوقع ، وهو ما يمثّل أرقى درجات الحب والإيثار، وأعمق مستويات النضج العقلي والوجداني.
غَادَرْتُ مكْسُورَ الفؤادِ مُمَزّقاً.
أجْتَرُّ حُزْني ..
كُلُّ أشْواقي مُسَافِرةُ إليكْ
إلّا أَنا..
لادرْبَ ليْ
مسْدودَةٌ طُرُقي،
تُحَاصِرُني الصّحَارى والْجِبالُ
ويَثُورُ في نَفْسي السّؤال ْ
متى أَرَاكْ ؟؟ولنْ أَرَاكْ !
والنص لما به من ألم وحزن وأسف وندب للحظ العاثر، وسخط على ما آلت اليه النهايات البئيسة لطرفي العلاقة، لا بد وأن كل هذه الانفعالات تشكل ضربةً داميةً في الذات جرَّتْ الغريزة الطبيعية في الإنسان على تفريغها خارجياً بالصراخ، لكن الشاعر كبح الغريزة الذاتيّة، وروّضها، وأحكم السيطرة عليها، ثم أخرجها نصاً هامساً هادئاً واعياً متعقّلاً، يتناسب مع مستوى النضج الشعري والعقلي والعمري للشاعر.
واختيار الألفاظ في النص الشعري ليست مسألةً يسيرةً، بل هي عمليةٌ تتم على نحو متسارع حثيث لحظي الزمن فوري اللحظة، وتشكل اختباراً صارماً لمهارة الشاعر، وشاعريته،
وقد أجاد الشاعر أيما إجادة في اختيار ألفاظه، وتعبيراته، بداية من عنوان النص ،وانتهاء بآخر كلمة ، فوصلت الرسالة والمضمون بأبلغ وأرق وأمتع درجات الإبانة والوضوح .
فحين نتأمل في ألفاظ العنوان ( همسة على قارعة الحزن ) نجد أن لفظ همسة ضدها أو يقابلها لفظ صرخة الذي يناسب ردة الفعل على الحزن ، فشكل الحزن والغضب في الذات يمكن تخيله على نحو صاخب وصارخ وهادر، لكن انبثاقه إلى الخارج الموضوعي أضفى عليه هذا الخارج شكلاً مغايراً تماماً، إذ لا يمكن لذات الخيال أن يتصور ذات الشكل ينتقل صارخاً كما هو إلى قارعة الطريق، أو قارعة الحزن، وفق ما جاء في النص ، فالتعبير عمّا يدور في الذات لا ينبغي أن يتخذ شكلاً مماثلاً لحالته الذاتية اللاواعية التي غالباً ما تتسم بالفوضوية والحدّة والجنون.
فلغة الاستعلاء على الحزن والسخط كانت جليّةً في النص وفي عنوانه الجامع له والدّال عليه ، وقد تحكّم لفظ (القارعة ) في لفظ (همسة ) فالقارعة وهي منتصف الطريق، يناسبها الهمس لا الصراخ والصخب ، وجاء حرف الجر (على ) الذي يفيد الاستعلاء والتعليل مؤكداً لموضوعية الكلام، وترابط دلالات الألفاظ ،وتجانسها وانسجامها.
ومع أن حرف الجر (في ) يؤدي نفس الغرض ،إلّا أن الشاعر اختار بعناية الحرف (على ) فهو- أيضاً- يأتي بمعنى ( من ) ، فيحول معنى ( قارعة ) إلى مصيبة فكأنّ الهمسة تأتي من وسط مصيبة الحزن التي ألمّت بالشاعر .
وهكذا نجد تنوعاً في دلالات الألفاظ ،والصور المجازيّة المكتنفة لها.
فلدينا طريق مجازي للحزن وللحزانى يتهامسون فيها أو عليها ، ولدينا طريق خاصة بالشاعر يهمس فيها بأوجاعه وأحزانه ، ولدينا وسط أو دائرة ذاتيّة مكلوءة بالحزن خرج منها النص ،ليهمس للعالم رائعة من روائع صراع العقل والعاطفة.
ثم كان لفظ ( الحزن ) مناسباً لكلا دلالتي لفظ (قارعة ).
فالحزن بالرفع كحالة عاطفيّة نفسية يبرر دلالة المصيبة، والهول في معنى ( قارعة ) وقريباً منه يكون لفظ (الحَزن ) بالفتح، وهو المشقّة والصعوبة والطريق كالأداء الغليظة ، وهو ما يناسب تلك الحالة العاطفيّة النفسيّة، ويمنحنا تصوراً لمسار الحُزْن الشاق و الصعب في الذات الإنسانيّة، ويكرس التصور الوعر لمعنى وشكل قارعة طريق الحزن ، وهذا المنحى ظهر لاحقاً في متن النص حين يقول الشاعر :
لادرْبَ ليْ
مسْدودَةٌ طُرُقي،
تُحَاصِرُني الصّحَارى والْجِبالُ .
وفي مثل هذه الحالة العاطفية غالباً تتخذ (دراما) النص المنطوي على السرد القصصي، شكلاً تفاعليّاً تصاعديّا مفعما بالإثارة والتشويق، وفقاً لتتابع الأحداث، وتبعاً لتفاقمات وتداعيات ردات الفعل ،والصدى المرتد على جانبي الواقع الذاتي، والواقع الموضوعي للشاعر وللكلام ،لهذا نجد النص مرتباً على شكل عناصر، أو مقاطع متناغمة التسلسل.
فبداية كان قرار الغياب المتعمد، وتسبيب هذا القرار ، ثم تلا ذلك تبيان تداعيات المغادرة الموجعة لذات الشاعر :
غَادَرْتُ مكْسُورَ الفؤادِ مُمَزّقاً …
أجْتَرُّ حُزْني ..
كُلُّ أشْواقي مُسَافِرةُ إليكْ
إلّا أَنا ..
ثم ينتقل بسلاسة إلى تبيان التبيان وسبب تلك التداعيات المؤلمة بالعودة بالزمن إلى ما قبل قرار الغياب ،حين كان الشاعر يعيش في رغد من الجمال والعشق، وحين كان الحب ينمو ويزدهر ويملأ حياته وروداً وأملاً وسعادة .
لَمْ أَدْر ِ طَعْمَ الْحُبِّ
ما ألْوانُه ُ ونَعِيمُهُ
حتَّى تَمَلّكَني هَواكْ
فَنَمَتْ عّلى لُغَتي الْورُود .
ورَأيتُ رُوحَكَ كالْفَراشِ
تَرِف ُّمِنْ حَولي
وتَمْنَحُني الضِّياءْ
ورَأيتُ بدْراً في السَّماءْ
يَغَارُ منْكَ إذا ابْتَسَمْتَ
ومِنْ بَهَاكْ .
وفي المقطع الأخير يعود بنا الشاعر على خط الزمن إلى اللحظة الآنيّة ،وإلى ذروة مشاعره المتسمة بالشك وانعدام اليقين واليأس المتخفي وراء القدر والحظ العاثر المصاحب للشاعر :
لَكِنًهُ قَدَرِي
تَمُوتُ الأُمْنِياتُ عَلَى يَدي
وتَطِيرُ مِنْ شَجَري
عَصَافِيرُ الْجَمَالِ
أَرَى مَغَاني الرًّوضِ تّقْطِفُ
زَهْرَها الْغِرْبانُ
بِئْسَ الطّيرُ تَسْرقُ
منْ جَنَاكْ .
وهكذا بلغ بنا الشاعر أقسى درجات اليأس والأسف والسخط في آن واحد ، وهو يراقب تلك المآلات المؤسفة لتضحيته المؤلمة :
أَرَى مَغَاني الرًّوضِ تّقْطِفُ
زَهْرَها الْغِرْبانُ
بِئْسَ الطّيرُ تَسْرقُ
منْ جَنَاكْ .
وعزاؤه وعزاؤنا أن خرج لنا من تلك التجربة بهذا النص البديع الذي يصلح أن يكون منطلقاً لرواية عاطفية واقعيّة محزنة مكتملة العناصر والأحداث.
لا شك أن هذه القصيدة الرائعة من أجمل وأبلغ وأمتع ما قرأت من نصوص شعريّة، ولا أزعم أنني هنا أقدم قراءة نقديّة للنص بقدر ما هي خواطر وتداعيات، أسالها النص في خاطري ووجداني، وأرجو أن يحظى النصّ بحقّه من القراءات النقديّة الرصينة.
والله الموفق .
جميل جداً أبدعت