التمكين الثقافي ودوره في تعزيز إسهام الأفراد ذوي الإعاقة في المجتمع
بقلم / د. تركي العيار
التمكين هو إكساب ذوي الاحتياجات الخاصة مختلف المعارف والاتجاهات والقيم والمهارات التي تؤهلهم للمشاركة الإيجابية الفعالة في مختلف أنشطة وفعاليات الحياة الإنسانية إلى أقصى حد تؤهله لهم إمكانياتهم وقدراتهم ، إضافة إلى تغيير ثقافة المجتمع نحو المعاقين والإعاقة بشكل عام من ثقافة التهميش إلى ثقافة التمكين. وهذه المهمة كما تعلمون والتي تدخل تحت إطار التنشئة الاجتماعية والثقافية تضطلع بها بشكل رئيسي مؤسسات التعليم العام والجامعي ومراكز التأهيل. فعملية التمكين ترى أن الأشخاص بشكل عام لديهم الكفاءة إذا تم تزويدهم بالموارد والفرص ، كذلك التمكين يجعل الأشخاص قادرين على التغيير الفعال ، بجانب أنه يساعدهم على الاستقلال الذاتي.
التمكين بشكل عام ، والتمكين الثقافي بشكل خاص ، يعد من الأولويات القصوى للدول التي تنشد النمو ، لأن التنمية الاجتماعية الشاملة تتطلب الاهتمام بتمكين كل فئات المجتمع من حقوقهم كاملة ، و كما هو معلوم تعتبر فئة الأشخاص ذوي الإعاقة أكثر هذه الفئات تهميشاً على المستوى العالمي ، حيث أن عدد المشاركين فعليا على سبيل المثال في التنمية الاقتصادية عالميا قليل مقارنة بعددهم الإجمالي الذي يصل الى 650 مليون معاق في العالم ، وعلى مستوى المملكة وحسب إحصائيات الهيئة العامة للإحصاء (2017) تتراوح نسبة الإعاقة في المملكة من %7 إلى 10% حيث يصل عددهم الى 1,445,723 مليون شخص من إجمالي عدد السكان 32,94 مليون نسمة ، موزعة حسب نسب ارتفاعها على 6 إعاقات حركية وبصرية وسمعية واضطراب التوحد و فرط الحركة وتشتت الانتباه و متلازمة داون ، ونسبة الذكور أكثر من الاناث في الاعاقات 52,2% مقابل 47,8%. وكانت النسبة الأعلى للسكان السعوديين ذوي الإعاقة في منطقة الرياض تليها منطقة مكة المكرمة ثم المنطقة الشرقية ، وتعتبر منطقة نجران هي المنطقة الأقل في وجود السكان السعوديين ذوي الإعاقة.
وبناءً على هذه المعطيات ، استدعت الضرورة البحث عن سبل إشراك هذه الفئة وإدماجها في المجتمعات وإزالة جميع العقبات أمامها ومناهضة التمييز بينها وبين الفئات الأخرى. بل تبني استراتيجيات دمج وتمكين ذوي الاحتياجات الخاصة من المشاركة الاجتماعية والاستفادة من المميزات والخدمات التي تنتجها مؤسسات المجتمع للعاديين. كي تتم الاستفادة من فئة المعوقين وتفعيل دورهم الإيجابي ومساهمتهم المجتمعية. فالعديد من الأبحاث تشير إلى أن مشكلات المعاق الحياتية والتوافقية لا ترجع إلى الإصابة أو الإعاقة في ذاتها ، بل تعود بالأساس إلى الطريقة التي ينظر بها المجتمع إليهم. فتهميش واستبعاد الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة من مسار الحياة الطبيعية يؤدي بلا شك إلى فقدان أو محدودية مشاركتهم فيها نتيجة العقبات والموانع الاجتماعية والبيئية التي تحول دون تفاعلهم مع المجتمع (تعذر توفر وسائل المواصلات المناسبة).لذلك تعرف الإعاقة Handicap كونها فقدان أو تهميش أو محدودية المشاركة في فعاليات وأنشطة وخبرات الحياة الاجتماعية عند مستوى مماثل للعاديين ، وذلك نتيجة العقبات والموانع (Barriers) الاجتماعية والبيئية.
لذلك أنا أرى أنه لابد من التمكين الاجتماعي الكامل قبل الثقافي لذوي الاحتياجات الخاصة وكلاهما متداخلان ومترابطان ومهمان وضروريان ، فإذا تقبل المجتمع بكافة أفراده ومؤسساته المعوق وأمنوا بقدراته وإمكاناته ، وجعلوا سلامة العقل هو مؤشر الإنتاجية والعطاء بصرف النظر عن الاعاقات الجسدية او العضوية ، سوف يسهلون أموره ويهيئون البيئة المناسبة له مع تأمين كافة احتياجاته ، فإن المجتمع عندها سوف يستفيد منهم ومن علمهم ومن عطاءاتهم. فعلى سبيل المثال عالم الفيزياء البريطاني الدكتور (ستيفن هوكنق) المشلول شللاً كاملا كان ذكيا جدا لدرجة من شدة ذكائه يسمونه وريث نيوتن ، وهو الحاصل على جائزة نوبل العالمية في الفيزياء النووية ، ونظرياته في الفيزياء تدرس في الجامعات البريطانية وخارجها حتى بعد وفاته عام 2018 عن عمر 76 سنة.
التمكين الثقافي لذوي الاحتياجات الخاصة يتمثل في تحريرهم من كل أسباب الخوف وتطويرهم ذاتياً وعلمياً وصقل معارفهم وتنمية مواهبهم وحسهم النقدي ، وكذلك إتاحة الفرصة الكاملة لهم وتحفيزهم و تشجيعهم لإبراز مواهبهم وإثبات قدراتهم ، وتقديم ابداعاتهم بكافة الأشكال والصور، فمنهم من برز فعلا على المستوى العالمي والقاري والعربي والخليجي والمحلي في الكتابة الصحفية وتأليف الكتب والقصص والروايات ، وإعداد الأبحاث والدراسات وفي الشعر والفن التشكيلي بكل مدارسه وفنونه وأشكاله ، وكذلك في الانشاد والغناء والتلحين والتمثيل ، و منهم من برز في الإعلام المرئي والمسموع كمذيع ومعد ومقدم برامج. فهذا العطاء الثقافي الشمولي ينعكس إيجابيا على المجتمع من خلال مخرجات هذا العطاء المخرجات المعلوماتية والمعرفية والترفيهية. عطاء جميل ومتنوع يؤكد قدرة ذوي الاحتياجات الخاصة على المساهمة الفعالة في المجتمع من خلال ميادين الثقافة ومنابرها ، وقد تكون طروحاتهم تعالج مشاكل اجتماعية وفيها من التوجيهات والنصائح والتجارب المفيدة ، التي تشكل جزء مهم من مؤسسات المجتمع ، كما أن مشاركتهم تؤكد مساواتهم بالأخرين ، وتحقيق العدالة الاجتماعية ، وتؤكد أيضا بأن الابداع والعطاء ليس حكرا على الأشخاص العاديين ، بل هو لمن يملكه. وهذا يجعلني أهيب بكل من يملك موهبة او مهارة في أي مجال من ذوي الاحتياجات الخاصة أن يبادر بها ويظهرها للجمهور ، ولا ينتظر أن يدعوه أحد ، ولو أخفق مرة عليه أن يحاول مرات ومرات حتى يتحقق له ما يصبو إليه. فكم من معاق يشار له بالبنان في المجتمع ، وكم من سليم يجر أذيال الخيبة والفشل.