أحجية المشاعر

بقلم : حامد الظاهري

الندم لعبة قديمة ، أو حيلة قديمة تحتال بها على (الضحية) أو على أنفسنا ، لنخبر الجميع أننا ” الأفضل ” . نعم تلك هي الحقيقة . حين يبدأ الندم تتوقف المحاسبة.
لم أعد أميل لاستخدام تلك اللعبة ولم أعد أركن إليها.

أخبرته بكل وضوح أن مابيننا ‘ انتهى ! ‘ في البداية اتخذ من الكبرياء درعاً له .. أما اللامبالاة فقد كانت قناعاً مزيفاً يخفي به ملامح الأسى والحزن التي رسمت على محياه.

حاول أن يثني عزمي عن اتخاذ القرار ، ذلك القرار الحاسم الذي طالماً انتظرت توقيته لسنوات ، وحين جاء الوقت المناسب ، ترددت في اتخاذه ! ، تمسكت بفكرة القرار تشبث الغريق بطوق النجاة ، كنت آمل أن تساعدني تلك الخطوة لأن تتغير حياتي بصورة جذرية ، ولكن كان للأيام رأي آخر.

بعد أن استنفذ كل محاولاته الأولى لمنعي من تلك الخطوة بدأ في استخدام أساليب أخرى ، حتى أتراجع عن القرار . تارة يرسل الشفعاء بيننا ، وتارة أخرى يبعث رسائل عاطفية في اعطاف الهدايا ، ومع ذلك يعود الشفيع بخفي حنين وتبقى الهدايا يعلوها غبار التجاهل ، محملة بالحنين .

جلست في صالة التلفاز .. حيث أرى البشر أمامي دون صوت ، كأنما هم أشباه بشر أو بقايا أشباح تتحرك بلا معنى .. هل تعبر الملامح ونظرات العيون عن شيء .. أيمكن لإنسان أن يعيش بهما فقط .. عادت لي ذكريات مضت . نظرات وتعابير وددت حينها أن يفهمها.

في ضحى اليوم التالي ، استيقظت يصحبني ألم في الرقبة لاتزال الإضاءة تملأ المكان مثل رسالة إيجابية ، ولايزال أشباه البشر يتحركوا أمامي مثل أضغاث أحلام .

على الطاولة قهوتي التي لم تكتمل وإلى يساري هاتفي وقد أوشكت بطاريته على الانتهاء ، نظرت إلى الساعة وتجاهلت عشرات التنبيهات التي على الشاشة ، بعض اللحظات نود فيها أن نهرب من كل شيء حتى من أنفسنا.

طويت سجادتي وقمت لأعد طعاماً ، دخلت إلى المطبخ .. بضع أواني في الحوض من عشاء البارحة . أخذت قطعة فحم ووضعتها على النار ، ذكرتني حالة القطعة بسواد فعلته و كيف تأجج صدري حين علمت بما فعله وليتني ماعلمت ،بل مما زاد النار سعاراً في فؤادي أني أتلقى سهام العتاب مع أنني ( لَمْ أَجْنِ في الحُبِّ ذَنباً أَسـتَحِقُّ بِهِ عتباً ) قمت على ترتيب المكان بجوارحي أما روحي ، لا أدري لعلها في مكان آخر مع جروحي.

في صالة الطعام لم أدرك أنني على وشك إنهاء الإفطار إلا مع اللقيمات الأخيرة .. أين كنت أفكر ، فيه .. في أيامنا الحلوة ، والمرة .. اللحظات العفوية ، الأزمات ، المواقف ، تنقضي السنوات مثل حُلم يقظة .. يتقدم العمر مثل قطار سريع لانكاد نبصر أوله حتى نلمح آخر عربة فيه.

يعاودني ذلك الوخز المؤذي في العنق .. وخز الصدر أكثر إيلاماً منه .. أتحمل الاثنين لأمضي نحو المطبخ .. اليست تلك صورة مصغرة عن الحياة .. نتحمل بعض الألم حتى نصل إلى الأمل ؟

كدت أن آتيكِ حتى المنزل لأطمئن عليكِ ، هكذا قالت لي صديقتي التي اتصلت قبل قليل ، لاتخافي .. انا أقوى مما تظنين ، كان ذلك ردي اليتيم لها قبل أن تنطلق في ماراثونها الكلامي ، أما ردودي فلم تكن سوى بضع همهمات هنا وهناك وبضع كلمات لتستمر في الحديث.

لا أدري كيف انتهت المكالمة .. وضعت هاتفي ليشحن ، أحيانا أتمنى أن أكون مثل الهاتف .. يجد مصدر الطاقة الذي لا يتذمر أو ينتقد أو يتأمر .. ألقيت رأسي على الوسادة لعلي أجد بين ندف القطن مواسياً.

ستيقظت في ظلام دامس .. الحر شديد والمكان خانق .. ارى بصيص ضوء الشارع من نافذتي .. حاولت القيام ولم تحملني قدماي .. كأنما هنالك شيء يربض عليهما .. قاومت ، حاولت مجدداً القيام دون جدوى .. صرخت بأعلى صوتي لاستيقظ من كابوس مرعب.

كادت الشمس أن تودع السماء .. كيف استغرقت في النوم لا أعلم ! .. خرجت إلى حديقة المنزل لاستنشاق بعض الهواء المنعش بعد أن أعددت كوباً من الشاي المعطر .. وضعت الكوب بجوار بعض قطع البسكويت على الطاولة الخشبية.

أتأمل شجرة التوت الجميلة أنظر إلى فروعها المتشابكة مثل تشابك الظروف .. تلك الشجرة اخترتها و غرستها بنفسي .. ولها في نفسي غرسة حٌب تنمو مع نموها ،أخذت قضمة من قطعة البسكويت تناثرت بعض فتافيت السكر على المنديل ..
تذكرت حين كنا في البستان .. نجلس على الأرض التي تنبعث منها رائحة المطر .. كانت الأجواء تميل إلى البرودة قليلاً .. والأشجار من حولنا محيطة كأنما هم حراس لسمو الحب ، نظرت إليه وهو يجمع فتافيت الخبر والبسكويت ويضعها بالقرب من قرية النمل .. قلت في داخلي آنذاك أما أن يكون مريض عقلي أو أنه إنسان بمنتهى الرحمة .. وكشفت لي الأيام يقيناً أنه كان أحدهما.

‘ فكري ‘ هي آخر كلمة سمعتها منه .. يكاد رأسي أن ينفجر من التفكير .. من سيكون بيننا الضحية هو أم أنا ، من سوف يؤلمه القرار أكثر لايزال السؤال يلح علي مثل وسواس قهري ، هل سوف اندم أنني لم أتخذ القرار ، أم سأندم بعد اتخاذه ؟! ولكن الندم لعبة أو حيلة قديمة لا استخدامها ولم أعد أركن إليها.

عن إدارة النشر

شاهد أيضاً

جُرْحُ الْهَوى

محمد النعمي – بيش أمَا زَالَ وَجْهُكِ حُلْمَ الُمَرايا وَعَيْنَاكِ يَرْنو إلَيْها الْكَحَلْ وَهَلْ مَا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الرؤية: انطلقت جريدة روافد الإلكترونية من المدينة المنورة تساهم في تقديم الأخبار وتغطيتها، واستقصاء المعلومة بأسلوب يراعي أحدث المعايير المهنية ويحرص على ملامسة رغبات القراء المعرفية وتلبية احتياجاتهم المعلوماتية. وتعنى روافد بالشؤون المحلية، في دائرتها الأقرب، ثم تتسع دوائر اهتماماتها لتشمل شؤون الخليج فالعرب فالعالم.
الرسالة: توفير المحتوى الملائم للجمهور على مستوى التغطيات السياسية والرياضية والأخبار المنوعة، وتقديم التقارير والتحليلات السياسية والتحقيقات الصحفية في مختلف الأحداث بأسلوب يتماشى مع تطلعات الجمهور، وتقديم محتوى غير تقليدي من حيث الشكل والمعالجة. ولن تتوقف روافد عند حدود المهنية ومعاييرها، بل ستحرص على إضافة نكهتها الخاصة التي تمرّن فريق العمل عليها.