أعد الدراسة: مبارك حسين آل سراج*
“حين تكون لذة العطاء أجمل من لذة الكسب، تكتسي أعمالنا بمفاهيم العمل التطوعي السامية”.
اخترت هذه المقدمة لتكون مطلعاً لهذه الدراسة التي تلامس العمل التطوعي الذي يُخصّص الشخص فيه جزءاً من وقته ومهاراته لإنجاز أعمال تهدف إلى تقديم المساعدة للأفراد، أو المجتمع، أو المنظمات غير الربحية دون مقابل مادي، ومثل هذه الأعمال التطوعية غالباً ما تدار من قِبل مؤسسات المجتمع المدني، أو الجمعيات الخيرية، أو المنظمات الحكومية.
تتعدد أشكال العمل التطوعي ومجالاته، فمنه: التطوع الرسمي: حيث يتمّ تنظيم مشاركة الأفراد المتطوعين من خلال تزويدهم بمجموعة من الإرشادات والسياسات والإجراءات الموضوعة من قِبل المؤسسات، وهناك التطوع غير الرسمي: الذي يرتبط بكافة الأعمال التطوعية التي تُلبّي الاحتياجات الاجتماعية للمجتمع؛ ثم التطوع في مجموعات العمل الاجتماعي: ويتشابه هذا النوع من التطوع مع التطوع غير الرسمي، ولكن يكمن الفرق بين النوعين بأنّ التطوّع في مجموعات العمل الاجتماعي يهدف بشكل أساسي لإحداث تغييرات في المجتمع لخدمة قضية معينة، ومن الأمثلة على هذا النوع؛ التطوع في مجموعة لها علاقة بالبيئة مثلاً، وهناك تطوع الحوكمة: يُقصد به تطوّع الأفراد كأعضاء في مجلس الإدارة أو في لجان الإدارة الخاصة بإحدى المنظمات، وهناك التطوع القائم على المشاريع: وُعدّ من أكثر أنواع التطوع شيوعاً في المجتمعات بالوقت الحالي، ومن الأمثلة على هذا النوع من التطوع؛ إعادة تصميم الموقع الإلكتروني لإحدى المؤسسات أو التطوع لكتابة خطة تسويقية لشركة ما، ثم التطوع الإلكتروني: ويمتاز هذا النوع من التطوع بأنّه يسمح للشخص بالتبرع بوقته من أجل الخدمة، وبشكل يُمكّنه من إحداث فرق أو تغيير ملموس دون أن يكون موجوداً على أرض الواقع.
فوائد صحية وسلوكية..
وقد أثبتت الدراسات أهمية التطوع في تعزيز العلاقات الاجتماعية، كما يمنح العمل التطوعي الشخص مجموعةً من الفوائد الصحية لعقله وجسده، وأهمّها أنه يُساعد على تقليل أيّ نوع من المشاعر السلبية؛ كالتوتر، والقلق، والغضب، بالإضافة إلى محاربته للاكتئاب. كما يزيد العمل التطوعي من الشعور بالسعادة وتعزيز ثقة الشخص بنفسه، ويُساعد الشخص على تحديد أهدافه وتوجّهاته في الحياة، الأمر الذي يجعله شغوفاً بالعمل المستمر.
وُيحافظ العمل التطوعي على بقاء الإنسان بصحة جيدة، حيث أثبتت الدراسات أنّ الذين يتطوعون لديهم معدل وفيات أقل، كما يُحسّن العمل التطوعي من مهارات التفكير لدى الشخص، ويُقلّل من احتمالية الإصابة بالأمراض المزمنة، ناهيك عن إضفاء المتعة والمشاعر الإيجابية، كما يُمكن أن يكون العمل التطوعي إحدى الوسائل والأساليب التي تُحسّن من حياة الشخص المهنية؛ من خلال بناء شبكة من العلاقات، كما يُساعد على إكساب الشخص مهارات جديدة ومميزة؛ ويُعدّ العمل التطوعي أحد الأسباب التي تُشعر الشخص بالدافعية وتُحفّزه للاستمرار بما يفعله.
تحديات ومعوقات..
ورغم الإنجازات التي حققتها الفرق التطوعية في بلادنا إلا أن التحديات التي تواجه العمل التطوعي ما زالت قائمة، ولعل أهمها ضعف التخطيط للفعاليات والمناشط في بعض المنظمات وعدم منح المتطوعين مهام تطوعية تواكب مؤهلاتهم واهتماماتهم وميولهم لاستثمار طاقاتهم بالشكل الصحيح، فتشغيل المتطوع في المجال المناسب يؤدي إلى نتائج إيجابية ويمنح الجهات المعنية أقصى فائدة من العمل التطوعي.
كما يبرز من بين التحديات محدودية أو الافتقاد للدورات والورش والبرامج التثقيفية والتوعوية الموجهة للشباب بأهمية العمل التطوعي، مما يعرقل ترسيخ ثقافة العمل التطوعي في المجتمع، فمعظم الشباب لديهم خبرات محدودة عن العمل التطوعي وهو ما يتطلب وجود برنامج توعوي واضح تتعاون فيه جميع الجهات العاملة بالدولة لتثقيف الشباب بشكل خاص وكافة أفراد المجتمع عن أهمية العمل التطوعي وفائدته للمتطوع نفسه وللمجتمع من حوله، فهو عمل يساهم في توفير مبالغ مالية كبيرة على الدولة كما أن التطوع يساهم في نشر السلام والطمأنينة وتعزيز الصورة الإيجابية للمجتمع.
ولا ننسى إشكالية ربط الأعمال التطوعية بأحداث معينة كالحج والكوارث الطبيعية أو الصحية، مما يغرس في الذاكرة الجمعية لأبنائنا أن الاعمال التطوعية هي ممارسات طارئة تنتهي بزوال المسبب!!
إن إهمال تشجيع وتحفيز المتطوعين يؤثر بصورة مباشرة على المتطوع، بل هناك الكثير من الجهات التي تتعامل معه بأنه موظف يؤدي واجبه ولا تقوم بأي بادرة شكر للمتطوعين وتكريمهم معنوياً، الأمر الذي يدفع الكثير منهم لعدم إعادة التجربة مرة أخرى، أو قد يدفع الآخرين لأداء تلك الاعمال للحصول على المقابل المادي أو المصالح الوظيفية.
من هنا فإن الأمر يستلزم وضع استراتيجية شاملة لجذب الشباب للعمل التطوعي تساهم في توسعة مدارك الشباب ودفعهم نحو المشاركة المجتمعية وتمنحهم خبرات كثيرة في التعامل مع الأحداث كما تفرز خبرات قادرة على المشاركة في مختلف الفعاليات المقامة.
إن ثقافة العمل التطوعي لا تقاس بالأرقام بل بالتزام واستمرار المتطوعين، فالمطلوب الاستمرارية والاستدامة والتمكين، لأن المتطوع الذي ليس لديه القدرة على الاستمرارية هو خارج الرقم ولا يصلح أن يسمى متطوعاً، وهناك بعض الأشخاص يقومون بالتسجيل كمتطوعين ولكن لا يشاركون!!.
حلول آنيّة..
لذا، ففي سبيل تدعيم ثقافة التطوع ونشرها بين الأجيال الجديدة لابد من الاهتمام بالأسرة وضرورة أن تشارك في تعويد الطفل الصغير على المساعدة في الأعمال المنزلية حتى لو كانت بسيطة، وحثه على تقديم يد المساعدة والعون لإخوته أو أصدقائه، ومن ثم يبدأ الطفل منذ الصغر في الاعتياد على بذل الجهد والتفاني في مساعدة الآخرين إضافة إلى دور المدرسة التي لابد أن تعمل على غرس هذه الثقافة وتقديم مقررات تتعلق بالأعمال التطوعية، ويجب أن يتم إشراك طلاب المرحلتين المتوسطة والثانوية في بعض النشاطات الخارجية مثل مساعدة المسنين والأيتام وذوي الإعاقة وغيرها من الخدمات التي تغرس في نفوسهم روح المسؤولية تجاه مجتمعهم والإنسانية جمعاء.
ولعل إبراز البعد الديني أمر مهم، لذا ينبغي استحضاره دائما ونقل صورة المجتمع الإسلامي الأول وقصص الصحابة والصحابيات الذين أبلوا بلاء حسناً في العمل التطوعي خاصة خلال الحروب، لتحقيق المنفعة للمتطوع أولاً وتشجيعه على تقديم خدمة تساهم في رفع إمكانياته وخبراته لإبعاده عن الفراغ والملل أو الجنوح لأمور غير مرغوبة، وليكون محل تقدير في مجتمعه.
وهنا أستحضر قصة عايشتها في بريطانيا عام 2009 عن جارتي المسنة التي تطوعت على مدى 16 عاماً -وما زالت- لتنظيم الحركة المرورية في الشارع المقابل للمدرسة التي كانت تدرس بها ابنتها الوحيدة التي توفيت بسبب حادث مروري، وكان هدفها من هذا العمل الإنساني التطوعي هو تفادي وقوع حوادث مماثلة للآخرين.
برامج توعوية في اليوم العالمي للتطوع
إن استقطاب الشباب للعمل التطوعي يتطلب إطلاق برامج وورش عمل لتثقيفهم وتوعيتهم بأهمية العمل التطوعي فضلا عن زيادة البرامج التأهيلية التي تساهم في ترسيخ ثقافة التطوع.
ولعلي هنا أقترح تكثيف البرامج التوعوية في اليوم العالمي للتطوع الذي يصادف الخامس من ديسمبر كل عام لتعريف النشء بهذا العمل التنموي والإنساني الهام.
كما لا بد من تغيير فكرة العمل التطوعي وعدم جعلها مقتصرة على تنظيف الشواطئ وزرع الأشجار لأن المفهوم أعمق من ذلك ويجب أن يكون مفهوم التطوع واضحاً ومتطوراً ويواكب الدول المتقدمة.
إن نجاح العمل التطوعي يعتمد على عدة عوامل ومن أهمها حماس الشباب وإيمانهم بأهمية رسالتهم فضلاً عن إدراكهم لأبعاد عملهم.
الهيئة العامة للعمل التطوعي
وأمام كل هذه المعطيات ورغم الجهود المتميزة التي يبذلها المتطوعون وما تحمله عطاءاتهم من قيمة إلا أنهم مازالوا بحاجة الى مرجعية تلم شتات جهودهم المبعثرة بين عدة جهات..
فالبعض مسجلون في الجمعيات الخيرية التي تسجل ساعاتهم التطوعية في منصة العمل التطوعي الخاصة بوزارة الموارد البشرية أو منصة وزارة الصحة، والبعض الآخر مسجلون في الفرق التطوعية الخاصة بالقطاعات الحكومية أو الشركات والمؤسسات التي يعملون بها..
وأمام هذا التشتت وعدم وضوح المرجعية، وحفاظا على جهود أبنائنا من المتطوعين والمتطوعات فإنني أطرح فكرة انشاء (هيئة عامة للعمل التطوعي) تكون مرجعاً للمتطوعين والمتطوعات بل والكشافة أيضاً، وتوفر لهم أدوات نجاحهم وتقدم الدعم اللوجستي لهم وتعمل على حل مشاكلهم أسوة بباقي الهيئات الموجودة في بلادنا، حتى يتهيأوا لأداء المهام المنوطة بهم. بما يدعم الجهود التي يبذلونها في مضمار العمل الخيري لتكون أكثر فائدة تصل الى المحتاجين على أوسع رقعة من الأرض.
ولعل من المهم جداً أن تضم هذه الهيئة قاعدة بيانات تحدد أسماء وأعمار المتطوعين وتخصصاتهم وميولهم وقدراتهم بما يدعم المهام التي يتم إسنادها لهم وبما نضمن من خلاله أفضل النتائج التي تترك أثراً مستداما في خدمة المجتمع.
إن العمل التطوعي سمة من السمات النبيلة التي لازمت مجتمعنا عبر مختلف العصور، الأمر الذي ينادي بضرورة إنشاء هذه الهيئة التي تؤهل المتطوع لكي ينظم عمله الخيري من خلال عمل مؤسسي تشارك به كل الجهات الرسمية والشعبية حتى يكون المرآة الحقيقية التي تعكس العمل التطوعي والخيري لدينا.
فتنظيم العمل التطوعي تحت مظلة واحدة تجمع جهود مختلف الجهات والمنظمات ذات الطابع الرسمي أو المدني سيساهم في دعم الجهود الرسمية في بلادنا في ظل الرؤية التنموية 2030 والتي جعلت العمل التطوعي من مستهدفاتها الرئيسية متطلعة إلى الوصول لعدد مليون متطوع، حتى تصبح المملكة رائدة في هذا المجال، خاصة وان هذا العمل النبيل يحقق مستهدفات التنمية المستدامة ويتفهم من خلاله المتطوعون دلالات المسؤولية الاجتماعية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بكل ما تتركه من آثار مستدامة تعود بالخير على المجتمع.. وتعزز من جودة الحياة فيه.
إن كل عمل سواء كان تطوعيا أو غيره لا يمكن جعله منتظما ومنتجا إلا من خلال آلية عمل مؤسسية يمكنها تسيير العمل الجماعي وتحقيق الفائدة المرجوة منه. مع ضرورة إجراء مسوح للمتطوعين لتطوير أدائهم كتلك التي يجريها معهد غالوب كل عامين تقريباً، وهي مسوح بالعينة للمتطوعين تمثل متغيرات التعليم، النوع، الحالة الاسرية، الدخل.. وهي تصب في النهاية في تغيير أنماط السلوك التطوعي.
مدير إدارة الاستدامة المالية بجمعية البر بجدة.*