خواطر/ طارق يسن الطاهر
عام مضى ، 365يوما، بساعاتها ودقائقها وثوانيها ، والصوت الملائكي فيها غائب عن أذني ، وغاب فيها ذلك الجسد الطاهر عن مرآي ، وغابت تلك الروح النبيلة عن حياتي.
ماذا دهى العالم بعد غيابك؟
ليس غيابك غياب أم عن أولادها، ولكنه غياب الرحمة عن الدنيا ،وغياب الضحكة عن الوجه، وغياب المحبة عن الناس .
كأنّ العالم انتظر غيابك لتفتك به الحروب، وتنتهبه المآسي ، وتتعاوره النكبات ،وتجتاحه الأسقام، وتنهكه الأدواء.
كأني بك الآن تفترشين حصباء الجنة ، وتستنشقين ريحها الطيب ،وتستظلين بجريد نخلها ، وتمر من تحتك الأنهار ، تحتسين من اللبن بلا تردد ، لا يحرمك منه شيء ، وتشربين من العسل دون خوف من ارتفاع ” السكر” الذي سكن جسدك النحيل سنوات ليست بالقليلة ، تأكلين من لحم الطير الذي تشتهين ،ولا يصدنّك عنه شيء.
ثم أراك تعرجين على موضع في الجنة ،يتزاحم فيه الناس ،فما أن رأوك إلا وأفسحوا لك الطريق ؛ لتشربي من يد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، شربة من حوضه، تسلمين عليه ،وتقولين له : أنا تلك الأرملة التي رأيتَ سوادها ، وكانت تبادرك في دخول الجنة ، فأنا التي قصرت نفسي على أولادي، وعكفت على تربيتهم بعد وفاة زوجي.
كأني بك وأنت تمرين في أعلى الجنة تلتقين حبيب فؤادك ورفيق دربك وصنو روحك، أبي الذي رحل باكرا ،وترك لك الأمانة والمسؤولية والحمل الثقيل ، أكاد أجزم أنك عند لقائك به قلت له : اطمئن ،وكن قرير العين ؛فقد قمتُ بالواجب على أكمل وجه، فقد كبّرت وربّيت وعلّمت وحفظت ورعيت، فقد شب الصغير، وعوفي المريض، وعاد الغائب ، تحكين له عن حالنا ،وعن وضعنا الذي أوصلتِنا إليه ، وعن أحفاده الذين رأيتِهم ، وعن الدور الكبير الذي قمتِ به تجاهنا دون منٍّ أو أذى ،ولو مننتِ فامنني، ما كان ليضرك لو مننتِ ، فقد كان ما قلت حقا، لولاك -بعد الله – لتشتتت بنا السبل، ولتفرقنا أيدي سبأ ،ولتنازعتنا الأهواء ، وتقاذفتنا الأمواج إلى شواطئ غير آمنة ، فنحن معك وصلت سفينتا إلى بر الأمان ،واستقرت في مرسى الحياة، واستوت على جودي الاطمئنان ، فقد كان الربان مقتدرا ؛لأنه تهادى بها ،وجنّبها الصخور ،وأبعدها عن الغرق .
كأني بك تقولين له: إن أبناءك برّوني ورعوني وأعانوني وخدموني ، وعوضوني تعبي ، وآنسوا وحشتي، وأسعدوني . فذاك دأبك الذي لا يفارقك ، تحفظين المعروف ولو كان قليلا ،وتقدرين الجميل حتى لو كان يسيرا.
كأني أراه يبتسم تلك الابتسامة التي تحرك القلب من مكانه فرحا ، لما تكتنزه من طاقة إيجابية ، كنا نستمد منها القدرة ، ونستلهم منها القوة .
كأني بك وأنت تواصلين مرورك ، تسمعين صوتا تألفينه ،وتحبينه، لطالما كان هادئا ورقيقا وعذبا ، يناجيك كما كان يفعل في الدنيا ،ويناديك بهدوء كما كان يحدث في الحياة الأولى ، إنه خالد، ابنك الذي فارقنا قبلك ، رحل وترك أما ثكلى وإخوة أمضّهم الألم ،وأرملة شكت بُعده وآلمها فراقه ، وطفلة لم يرها ، ولكننا نرى فيها كل الجمال والجلال والروعة والأدب ، فهي خيار من خيار، الغالية بنت الغالي ،حفظها الله، وجعل فيها الخير والبركة ، فهي ذرية بعضها من بعض .
كأني به يحدثك حديثا عذبا رقيقا كدأبه دائما ، وأنت تحكين له عن بنته، وعن رقتها وعن دراستها وعن حالها ،وعن ذلك الرجل العظيم الذي كفلها ،ورأيتما مكانه محجوزا الآن جوار النبي صلى الله عليه وسلم. فرسولنا لا ينطق عن الهوى .
تحدثينه عن حب إخوته لابنته ،وعن لطفهم معها ، وعن اهتمامهم بها، وعن خفة دمها ،وضحكتها المجلجلة التي عندما ترنّ في الآفاق يرقص لها القلب طربا.
تحدثينه عن “الصدقة” التي كنتِ تقدمينها بإطعام الفقراء والمساكين كلما تحين ذكرى وفاته ، وتلك الفرحة التي كانت تعتريهم، وذلك الدعاء الذي كانوا يرددونه له.
ثم تجلسين قليلا بعد مرورك هذا ، ويأتيك طفل صغير من الولدان المخلدين يشبه اللؤلؤ المنثور ، يسقيك بكأس من معين ، وأباريق ، تشربين وترتوين ، تُعجبين بجمال ذاك الطفل ، وفرط أدبه ، ولما تسألينه: من أنت يا بني ؟ يقول لك أنا محمد الأمين ، ابنك الصغير الذي توفي دون الحلم، فتضمينه وتلثمينه، وتسعدين به ،ثم يستأذنك ليسقي أباه …
كأني بك وأنت في مرورك تلتقين والدك ووالدتك ، فقد فارقاك مبكرا ، وذقت اليتم بفقدهما ، ولعلك وأنت تمرين في ردهات الجنة تلتقين بأخيك الذي رحل قبلك بقليل ، وتقرئينه منا السلام ،فهو قد سعى عليك وأنت أرملة، وسعى علينا ونحن أيتام ،فتتمازحان كما كنتما تفعلان ، مَن الأكبر بينكما ، أنتَ ، لا ، أنتِ، وتضحكين ويضحك، فتمتزج الضحكتان في ضحكة واحدة رنانة ، لا تكاد تبين لمن هذه ، ولمن تلك ، فيجتمع بضحككما بقية إخوانك وأخواتك ، فيلتئم الشمل ويجتمع الأحبة في مجلس أنس لا مثيل له.
تأتيهم بأخبار بنيهم وبناتهم وحفدتهم وحفيداتهم ، وجميع الأهل ،ومن تزوج ومن مات ،ومن كبر ،ومن مرض، ومن سافر ،ومن عاد …
فجأة تتوقفين ؛ لتسأليني : لماذا جئتَ متعجلا؟! وأقول لك : لم أطق مكوثا بعدك ، ولعل الله أراد لي أن أكون أسرع أهلك لحاقا بك ، كما كانت فاطمة رضي الله عنها مع أبيها صلى الله عليه وسلم .
تجلسين بعد مرورك هذا لتتناولي القهوة مع صويحباتك، وتعلو ضحكاتكن وقفشاتكن ، فقد تركتِ شرب القهوة وجلساتها في الدنيا؛ حتى لا تضيعي وقتا، ترين أن أولادك أحق به ،حينما كانوا صغارا كزغب الحواصل، فالآن تعنيك هذه الآية :”كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية”
تستمتعين بالسدر المخضود والطلح المنضود والظل الممدود والماء المسكوب ،وتأكلين من تلك الفاكهة الكثيرة ، دون حد وبلا عد ، لا يمنعك منها مرض السكر، حينما كنتِ لا تتجاوزين قطعة واحدة بسببه ، تأتيك طوعا بأمر ربها لا مقطوعة ولا ممنوعة .
الآن حان وقت القيلولة ، لا أريد أن أزعجك ، أستأذنك لتأخذي قيلولتك المعهودة ، ، وكأني بك تردين عليّ : ما دهاك يا بني؟ ألم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم : “النوم أخو الموت” ،فالموت –يا بني -قد ذُبح ، ولن يبقى أخوه ، يا بني ، أهل الجنة لا ينامون، فهنا لا تعب ولا نصب ولا صخب ، فلا نحتاج للنوم، وحتى لا تفوت علينا نعمة من نعم الله في جنته، ولكن نقيل دون نوم ، ثم تلت بصوت جميل :”أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا”
أراك تلبسين ثوبا قشيبا مطرزا مزركشا من السندس والإستبرق ، فأنت أنيقة في حياتك ،فلا عجب أن تكوني أنيقة في جنتك ، تعتنين بهندامك وأناقتك ونظافتك ، ولكنك عدت شابة صغيرة ،غاب عنك اللون الأبيض الذي وخط شعرك في الدنيا ، فذاك وعد نبينا صلى الله عليه وسلم قد تحقق.
عام مضى ، 365يوما بدقائقها وساعاتها وثوانيها ،مرت وأنت تمرحين متبخترة في خرف الجنة ، وتركتِ الناس وراءك يلهثون في حمى الحياة ، يقتل المسلمُ المسلمَ ، ويفرك الزوج زوجته، وتؤذي الزوجة زوجها، ويخدع الأخ أخاه ،ويغتني التاجر مستغلا أزمات الضعفاء، ويعق الابن أباه، ويهمل الأب ابنه ،ويضر الصديق صديقه ،ويهجر القريب قريبه.
365 يوما بدقائقها وساعاتها وثوانيها مرت ، واختفى الحب من الكون، وغاب الوفاء، فليس هناك وفيا غير الكلب ،ولا شجاعا غير الأسد، ولا لطيفا غير القط ، ولا وديعا غير الحمامة، فالآن يلعب الذئب مع الحمل كرة الماء على النهر، فإن حضر الإنسان هربا معا:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوّت إنسان فكدتُ أطير
كأني بك غبتِ حين غبتِ ، أخذتِ معك كل الوفاء ،وكل الإخلاص، وكل الإخاء ،وكل الأمان، وكل المحبة.
ما عاد بعدك للحياة معنى، ولا للعيش طعم ،ولا للبقاء هدف ، ولا للسفر وجهة ، اعتصرت الآلام دواخلنا، ونخرت الأحزان أحشاءنا .
وما لنا عزاء سوى الدعاء بسرعة اللقاء ، فغدا نلقى الأحبة ، محمدا وصحبه ، ولكن الخوف يعتريني من تباين منزلتَيْنا ،وأخشى أن أكون ممّن “… حِيل بينهم وبين ما يشتهون ” ، فلتشفعي لي عند رب الرحمة ، أن يُعلي منزلتي لأجاورك. فالله لن يرد شفاعتك ” وهو على جمعهم إذا يشاء قدير”.