لوحة لتراثنا المعماري الصامت القديم

سمير الفرشوطي ✍️ المدينة المنورة
في كل ركن من أركان العالم، تقف شاهدة على مر العصور، لوحات فنية صامتة تجسد عبقرية الإنسان وتناغمه مع بيئته. إنه التراث المعماري القديم، ذلك السجل الحي الذي يروي قصص الأجداد ويعكس هويتهم وثقافتهم. فعندما نتأمل في اختلافات البناء المعماري بين مختلف البلدان، نجد أنفسنا أمام معرض فني مفتوح، كل مبنى فيه لوحة فريدة تحكي حكاية الأرض التي نشأت عليها. لم يكن بناة هذه الصروح مهندسين بالمعنى الحديث للكلمة، بل كانوا فنانين حقيقيين، يعملون بفطرتهم وحسهم المرهف. كانوا يستلهمون إبداعاتهم من الطبيعة المحيطة بهم، مستخدمين ما تجود به الأرض من مواد. ففي بعض المدن، نرى البناء بالصخور البازلتية الداكنة، بينما في مدن أخرى نشاهد استخدام أنواع مختلفة من الصخور، مما يضفي على كل مدينة طابعها الخاص وهويتها المميزة.

كان لكل حرفي دوره الفني في هذه اللوحة المعمارية الكبيرة. فمنهم من برع في تكسير الصخور وترتيبها بدقة متناهية، ومنهم من أتقن فن صناعة الطين، حيث كانوا يتركونه ليختمر لأيام قبل استخدامه في كساء الجدران. وهناك من تخصص في استخراج الأصباغ من النباتات، ليزين بها الجدران برسومات تعكس روح المكان وثقافته. لم يقتصر الإبداع على البناء فحسب، بل امتد ليشمل الزخرفة والنقش. فترى النقوش البديعة تزين الأبواب والنوافذ، وتشاهد الأعمدة المصنوعة من جذوع الأشجار والنخيل، تقف شامخة لتحمل السقوف. وفي بعض المناطق، كانوا يستخدمون أغصان الأشجار والنخيل لتسقيف المباني، مما يضفي عليها طابعًا فريدًا يتناغم مع البيئة المحيطة.

ما يثير الإعجاب حقًا هو قدرة هؤلاء الفنانين على إنشاء الأقواس والأشكال المعمارية المعقدة دون الاعتماد على الحسابات الهندسية الدقيقة. كانت فطرتهم وخبرتهم المتوارثة هي دليلهم، فأبدعوا تصاميم ما زالت تبهرنا حتى يومنا هذا. هذا التراث المعماري القديم ليس مجرد مبانٍ صامتة، بل هو لوحة حية تتوارثها الأجيال. إنه يجسد قصة الإنسان وتفاعله مع بيئته، ويعكس قدرته على الإبداع والابتكار حتى في أبسط الظروف وبأقل الإمكانيات. فكل حجر، وكل نقش، وكل لون في هذه المباني يحمل في طياته قصة فنان عاش قبل قرون، ولكن إبداعه ما زال حيًا يخاطبنا عبر الزمن. في النهاية، يبقى تراثنا المعماري القديم شاهدًا على عبقرية أجدادنا وإبداعهم الفطري. إنه لوحة فنية صامتة تتحدث بصوت عالٍ عن هويتنا وثقافتنا، وتذكرنا دائمًا بأهمية الحفاظ على هذا الإرث الثمين ونقله للأجيال القادمة. فهو ليس مجرد مبانٍ من حجر وطين، بل هو تجسيد حي لروح الإبداع الإنساني الذي يتحدى الزمن ويبقى خالدًا.

عن إدارة النشر

شاهد أيضاً

دراسة حديثة تحذر من الوقوف لفترات طويلة أثناء العمل

روافد ـ متابعات حذرت دراسة فنلندية جديدة من الوقوف لفترات طويلة في العمل ، حيث …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

الرؤية: انطلقت جريدة روافد الإلكترونية من المدينة المنورة تساهم في تقديم الأخبار وتغطيتها، واستقصاء المعلومة بأسلوب يراعي أحدث المعايير المهنية ويحرص على ملامسة رغبات القراء المعرفية وتلبية احتياجاتهم المعلوماتية. وتعنى روافد بالشؤون المحلية، في دائرتها الأقرب، ثم تتسع دوائر اهتماماتها لتشمل شؤون الخليج فالعرب فالعالم.
الرسالة: توفير المحتوى الملائم للجمهور على مستوى التغطيات السياسية والرياضية والأخبار المنوعة، وتقديم التقارير والتحليلات السياسية والتحقيقات الصحفية في مختلف الأحداث بأسلوب يتماشى مع تطلعات الجمهور، وتقديم محتوى غير تقليدي من حيث الشكل والمعالجة. ولن تتوقف روافد عند حدود المهنية ومعاييرها، بل ستحرص على إضافة نكهتها الخاصة التي تمرّن فريق العمل عليها.