د. عثمــــان عطــــا
هذا الموضوع ليس درساً في الأحياء ، ولا علاجاً لفأر ، فأنا لست هنا مناصراً لفأر ، ولا معاقباً له ، ولا مدافعاً عنه ، ولا معالجاً له ، إنما ناقلاً ( لحال ) الفأر ذاك الأليف المصاب بالاكتئاب ! وما الذي يصيب فأراً بالاكتئاب ؟.
سؤال قد يبدو هزلياً أو مضحكاً ! لكن لا تستعجل الأمر ، ففي دراسة لتجربة أدوية مضادة للاكتئاب وتأثيرها على الإنسان وحتى لا يكون لها أثار جانبية عليه قام فريق من الأطباء بإجراء التجربة علي الفأر ولكن الذي حير الأطباء كيف سيقومون (بإكآب ) فأر ؟ ذاك الكائن الراضي بقطعة جبنة ودولاب يسير فيه !
الحل بطريقة بسيطة ، قاموا بعملية UCMS Protocol ))، أو “Unpredictable Chronic Mild Stress” لإحداث حالة من التوتر النفسي البسيط المستمر وغير المتوقع على الفئران، يتم خلالها تعريضها لمجموعة من الإجهادات البسيطة والمتكررة على مدار فترة طويلة للبيئة التي يعيش الفأر فيها مثل : تغيير نمط الإضاءة، تغيير ساعات نومه وتقلبات في درجة الحرارة، وتغيير في نوع الأطعمة، وتعرضها للضوضاء المستمرة، وقيود في الحركة، والتعرض للروائح الكريهة، تغيير موعد الأكل وغيرها من الإجهادات البسيطة.
يهدف البروتوكول إلى إحداث حالة من عدم اليقين وعدم التوقع في حياة الفأر وتعريضه لمجموعة متنوعة من الضغوط النفسيةُ لا تعرض حياته للخطر . ماذا وجد العلماء ؟ وجد العلماء أنه الفأر يتغير سلوكه ، يبدأ بإهمال نفسه وعدم اعتنائه المعتاد نظافته الشخصية ، ينام لساعات طويلة ، يزداد وزنه ، ويظهر عليه حالات انعدام الشعور بالاستمتاع ، والمشكلة الأكبر أن يؤثر على جهازه المناعي بزيادة نسبة الكورتيزون التي تزيد من وزنه ، وهو ما قد يسبب مشاكل علي القلب على المدى البعيد . …مسكين هذا ( الفأر ) يزداد (فقر) !
تبدو هذه التجربة حزينة ومؤثرة في حياة الفأر ، وهي أكثر حزناً وتأثراً وتأثيراً على حياة الإنسان الموظف (لا تشبيه ) الذي يعيش في بيئة عمل غير مستقرة ، ويجعله تحت تأثير بسيط ومستمر وغير متوقع ، وهذا ما نجده في بعض المنظمات غير المستقرة التي تعاني الضغط وبتالي تتخبط في القرارات وتتنقل بين الخطط ، وغير ذلك من الوعي المهني العام فتجد تارة الاجتماعات الاسبوعية واجتماعات الخميس أو الأحد والمفاجئة والقرارات الناتجة، اضف الى تغيير أنماط الأعمال والسير على ( رتم ) غير متناغم من الخطط والأهداف وهو ما يتسبب في ازدياد حالات القلق والتوتر وحالات الشعور بعدم الاستقرار التي تختلف بين( فأر وآخر) أسف جداً اقصد موظف عن آخر .
ففي دراسة عام ١٩٨٠ في الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة النسبة بين ( متوسط دخل مديري الشركات الكبيرة والموظف الأمريكي ) وجدوا أن النسبة ( من 1-42 أي بمعنى لو أن الموظف يتقاضى راتب (1000) $ الف دولار فإن المدراء يتقاضون ٤٢ ألف دولار ، وهي نسبة كبيرة وفجوة أكبر ما بين المدراء في الشركات الكبرى والموظفين ، ثم قاموا بتكرار هذه الدراسة في عام ٢٠١٦ لتصبح النسبة (١- 347 ) مره .
وفي تحليل آخر قبل ٤٠ سنة للموظفين الأقل دخلًا في أمريكا والذين يمثلون ٩٩٪ من إجمالي الموظفين يتقاضون فقط ما نسبته ٩٢٪ من إجمالي الأجور في أمريكا ، في حين أن 1% من الأعلى اجراً يتقاضون 8% من إجمالي الأجور ، وفي الوقت الحالي يتقاضون ٧٨٪ من إجمالي الأجور بنقص حوالي ١٤٪ في حين أن ١ ٪ من الموظفين الأعلى اجراً يتقاضون ٢٢٪من إجمالي الأجور وقد يرى البعض أن النسبة بسيطة وهي تمثل حوالي ٢ تريليون دولار تم نقلها أو أعطائها أو تحويلها من الأقل دخلاً إلى المدراء الأعلى دخلاً أو اصحاب رأس المال ، أي ولو افترضنا تقسيم هذا المبلغ ٢ تريليون وزع على إجمالي القوى العاملة في أمريكا لحصل كل فرد علي حوالي ١٦ الف دولار سنوياً ، مما يعني أنه سيزيد متوسط دخل الموظف الى ٣٣ ٪ .
ويبدو أن العديد من رؤوس الأموال أو أصحاب الشركات اتبعوا سياسة ( فريدمان ) أستاذ الاقتصاد الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد ، الذي يرى أن وظيفة مدير الشركة تحقيق أعلى أرباح للمستثمرين بغض النظر عن الطريقة أو الاسلوب المستخدم من أولئك المديرين على موظفيهم . فلا يفكرون إلا في كيفية زيادة أو تعظيم أرباح المساهمين ، وهو صاحب التحول الكبير الذي حدث للرأسمالية وتحولها من رأسمالية أصحاب المصلحة (الموظفين ) Stakeholder capitalism إلى رأسمالية أصحاب الأسهم المساهمين Shareholders’ Capitalism
. ولنعد إلى فأرنا المسكين وتأثره الذي قد نراه بسيطًا فإن الأثر الذي يحدثه الضغط النفسي وضغط العمل والإجهاد ، وخلق بيئة غير مستقرة تنعدم فيها التحفيز , والمكافآت والترقيات وضغط العمل أو التسلط والإحساس بالعبودية ذلك كله ( قلق وتوتر وترقب ) سوف تؤدي حتمًا إلى تراكمات نتيجتها البسيطة الاكتئاب أو الانعزال ، كما يحدث في اليابان أكثر من نصف مليون موظف قرروا ترك أعمالهم والانعزال وعدم التعامل مع أي شخص وهم ما يسمونهم Hikikomori ). ) أو يؤدي في أقصى حالاته إلى الانتحار كما حدث ( لجوزيف توماس ) المهندس المبدع في آبل الذي انتقل من العمل في آبل إلى أكثر الشركات نمواً وحداثة إلا أنها بيئة عمل يكثر فيها الضغط والإرهاق ونوبات القلق والتوتر لدى الموظفين رغم أنها بيئة عمل متطورة ، وواعدة ونامية وعوائدها المالية أعلى .
هذا يجعلنا نعيد التفكير في بيئات الأعمال وفي سياسات المنظمات الوظيفية والعمل على بشكل جاد ومدروس وخلق بيئة عمل صحية متطورة جاذبة ومستقرة ، تنمي موظفيها وتطورهم ، وتنمو معهم وتتشارك معهم الرؤى والخطط والعوائد .