(رجُل القطار)

بقلم الكاتبة :فُنون المبارك

في إحدى صباحات أيام الخريف الباردة جلس رجلان في مقعدين متقاربين في إحدى محطات القطار ، وبينما هم في غمرة أفكارهم …سأل أحدهما الآخر ما هو القطار ، وما نظرتك عنه !
أعلم أن سؤالي غريب وطريقتي فوضّوية في السؤال لكني أُحِب الحديث مع الغُرباء وقضاء وقتي في أمرٍ كهذا ..
توّقف الآخر لوهلة ثُم أجاب : لا شيء سِوى اختراع أو أداة تنقّل (تنتقُل بك من مكان إلى آخر)..
رد عليه الآخر : ماذا أيضا هل لا يعني لكَ شيئًا سِوى ذلك ؟
فأجابه: أممم في حين آخر يُضرب فيه الأمثال عند النساء اذا تجاوزت سن ما ولم تتزوج فيُقال عنها (فاتها القطار) هذا وبِئس المثل الذّي يُضرب ..!
ثُم إني وإلى الآن هذِه عُصارة فِكري المُرتجل حاليًا عن القطار
ولكن … ماذا عَنك ؟
ماذا يعني لك القطار اسمِعنا بعضاً من فلسفتك ؟
استند السائِل بكل أريحية إلى المقعد ووضع يديه خلف رأسه فابتسم ابتسامة خفيفة ثم قال :أنا أحمل الكثير في جعبتي عنه إني وإن كثُرت وسائل التنّقل ووسائِل السفر يبقى القطار خياري الوحيد ففيه أرى ضالّتي وأُنسي والتمس فيه لحظات لا تُنسى وصمتٌ دائِم يتزاحم بحديثٍ داخليّ .. فإني وإن ضاق بي الحال اذهب لابتسم مع المبتسمين واحزن مع الهالكين فأُروّح بنفسي عندما اتفرّس ملامح الزوّار واقرأ صمتَهُم وأترّنح بين عوالم باطنه ومظاهر لا أعلم حقيقتها لكن يكفيني أن أتأمل ذلك ..وان كُنت في مرحلة الانتظار اجلس على هذا المقعد فيلفتني هذا المكان وهو يعُج بالروّاد و استمتع برؤية القادِم لأهله ويؤسِفُني النظر للمُرتِحل عنهُم ..أُشاهد ترجمة مشاعرهم في بريق عيناهم عند الذهاب والإياب .. فأرى ذاكَ العائد المُتأهب القادم بعد زمنٍ طويل عن وطنه فأجِدهُ مشرِقاً يرى الجميع من عيونٍ أُخرى عينُ الرِضا واللهفة والعودة إليه عينٌ ترى الجانب المُضيء فقط فأسمعه أحيانًا ينشُد نشيد الوطني القديم وتاره يسمعه من الجهاز الذي يحمله فأدرك بتيقُن أنهُ مواطن عائد من ارض الغربة! وعِندما أصعَد اليه أرى من قد كتم أنفاسه وتظاهر بالقوة امام عائلته فإن صعد إذ اجِدهُ خُفية يجهش بالبكاء كالطفل الفاقد ذويه فأغُض طرفي عنه وتأخُذ بي عيني إلى من أنهَكهُ التعب وأهلكهُ الشقاء ليُسافر من اجل العِلاج فلا يترّقب وجوهٌ عابِرَه ولا يتذوق مذاق لذة الرِحلة ولا ما فيها مِن خدمات ..!
ثُم يصحبني نظري لتِلك العائِلة التي يتّضح من أمرِها أنها تُسافِر من أجل عزاء قريب لهُم فأرى تفاصيل باهته ودموع متناثرة بين الفينه والأُخرى ..
فما يكونُ مِني لكُل من ذكرتَهُم إلّا أن أكون عابِراً ودوداً معهم او لا أُواصِل النظر إليهِم ..و عندما اصِل الى المحطة المنتظرة تتوقف افكاري وأتوّجه إلى وجهتي ويكون لديّ الكثير من الحكايا التي لا أقولها لأحد ولكن استمتع بِها بمفردي ..ثُم … !
بدأ صوت انذار الرحلة القادمة يرُن بصوت صاخب ووسط زحمة أصوات المتأهبين للصعود والاستعداد..
نظر كلاهُما للآخر :-
ثم رد عليه : أظُن أنه حان وقت وداع لِقائِنا وصِدقاً لقد وُفقّت بالحديث معك رغم إن كلانا مُختلفان في نظرتنا للأمور ..لكنك أصبت سهماً في قلبي بحديثك هذا ..فإني و قد جمعنا الله في مقعدين متقاربين سأكون قصتُك القادمة
قاطعه بابتسامه :لقد أصبحت بالفعل فإني ورغم تكراري في المجيء لهذه المحطة لم استطِع أن ابُوح لأحدٍ عن حديثي وتأمُلي هذا ..
أجاب : يا صاحبي الغريب شخصاً وطبعاً أنت تلتمس بالمواقف ماذا لو تعمّقت بالحكاية؟ مواقفهم التي تراها رؤوس أقلام عن حياتهم ..!
فلَو سمعت من كُل شخص تراه عينك قصة حياته لن تعود إلى تأمُّل المواقف وأصحابها مرّة ثانية رأفة بعينك ..ولكن مجيئك إليه كافي بتوسيع مدارك عقلك واستحضار مشاعرك ومُراجعة مشاكلك والعودة لإصلاح ما كسر منك .. فالقطار مكان العودة والغياب، فترى فيه مشاعر الوداع واللقاء من عائِلات وأحباب حقيقية ..فتعود لتصلُح قبل ان يفوت الأوان..

فقام من كُرسيِّه وبدأ يجمع حاجياته وأشيائه للرحيل ، ثم نظَر بابتسامه وأردَف يقول : أظُن إنه حان وقتي للرحيل أيها المتأمّل وأنت أيها القارئ وأظُن أنني أيضا قد أتممت حصيلة تأمُلك للمحطة في هذا اليوم ..

إلى اللِقاء أيُها المتأمل ..
إلى اللقاء أيُها القارئ..

عن شعبان توكل

شاهد أيضاً

زيارتي إلى المدينة المنورة

د.يحيى بن علي البكري إلى المدينة الغراء دربي ومشواري مهد الرسالاتِ بيتٌ لمختارِ تهفو اليها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.